Author

المفاهيم الاقتصادية في الخطاب الملكي

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


يوم الأربعاء الماضي كان بالنسبة لي لحظة تاريخية وأنا ضمن أعضاء مجلس الشورى الذي تشرفوا بحضور افتتاح أعمال السنة الرابعة للدورة السابعة من أعمال مجلس الشورى السعودي، وتشرفت بالاستماع إلى كلمة خادم الحرمين الشريفين التي تضمنت كثيرا من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي بمنزلة التوجه الاستراتيجي للدولة في العام المقبل، وهنا سأتطرق لبعض المفاهيم الاقتصادية التي وردت في الخطاب الملكي، ويأتي على رأسها اكتتاب "أرامكو" الذي أشار إليه الملك كحدث اقتصادي مهم ومفصلي في السوق المالية السعودية وسيقودها إلى مستويات عالمية كما أشار الملك، هنا تتضح الرؤية بشأن إدراج "أرامكو"، وبشأن المنافع الاقتصادية من هذه الخطوة، فعلى الجانب الفردي يجد المواطن شركة عملاقة ذات سلعة مضمونة البيع "النفط"، وتمنح عوائد وتدفقات مضمونة نتيجة ذلك، وهذه النوعية من الشركات نادرة في الأسواق العالمية، فهي تمثل أسهما خالية من المخاطر (تقريبا)، كما أن المكاسب الرأسمالية لهذا النوع مضمونة أيضا، ومن جانب السوق المالية فإن وجود شركة بهذا الحجم سيضيف قفزة هائلة لعمق السوق ما يعني صعوبة التأثير في المؤشر العام للسوق نظرا لحجم شركة أرامكو فيه وقدرتها على ضبط إيقاع السوق، فسوق الأسهم السعودية ستشهد استقرارا ملحوظا بعدما تستكمل "أرامكو" عملية الإدراج.
أشار الملك في خطابه إلى رؤية المملكة 2030 وأنها ترتكز على تعزيز النمو الاقتصادي واستدامته، وإذا كان مفهوم النمو الاقتصادي يرتكز على الاستخدام الأمثل لكل الموارد المتاحة حتى مستوى التشغيل الكامل وهو ما يطلق عليه أحيانا الكفاءة الساكنة، إلا أن الاستدامة التي أشار إليها الملك تتطلب إدخال مفاهيم الابتكار والتطوير بشكل أساس وذلك ليتحول الاقتصاد السعودي من الكفاءة الساكنة إلى الكفاءة الديناميكية، فالابتكار والتطوير يقودان إلى إدخال كثير من الموارد الجديدة، خاصة تلك التي تتعلق برأس المال البشري، هنا أقتبس من خطاب الملك العبارات الآتية، "وإن حرصنا على المضي قدما في المشاريع التنموية وإيجاد مجالات اقتصادية جديدة دليل على عزم الدولة الراسخ على تحقيق أهدافها بتنويع القاعدة الاقتصادية واستثمار المتغيرات الاقتصادية لبناء مكتسبات وطنية جديدة سيكون المواطن فيها الهدف والرافد"، انتهى الاقتباس، كما أشار الخطاب الملكي إلى برنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة، وهو برنامج تنمية متوازنة لتعزيز القيمة المضافة والاستغلال الأمثل للموارد المتاحة. وهنا أعلق فأقول: إن هذه العبارات واضحة التعبير والدلالة الاقتصادية على أن توجه الدولة الاقتصادي يرتكز على التنمية المتوازنة من خلال الاستخدام الأمثل لكل الموارد المتاحة وإنجاز المشاريع التنموية الحالية وأيضا يرتكز على مفهوم الاستدامة الذي يتحقق مع إيجاد مجالات جديدة، كما أن إشارة الملك واضحة بشأن المواطن كرافد لهذا التنوع الاقتصادي المنشود وهذا يتحقق من خلال تعزيز الابتكار والتطوير. يذكر هنا أن الخطاب الملكي أشار بوضوح إلى أن تطوير نظام الجامعات يأتي في هذا السياق الذي يعد الموارد البشرية وإعداد الكوادر لسوق العمل إحدى أهم ركائز التوجه الاقتصادي الحديث في المملكة، كما أن المضي قدما في رفع كفاءة الإنفاق من خلال أسلوب الشراء الموحد يحقق مفهوما اقتصاديا مهما وهو معيار "القيمة مقابل المال"، وهو ما أشار إليه الخطاب الملكي في قوله عن هذا البرنامج -وهنا أقتبس-: "لتمكين الجهات الحكومية من تحقيق أفضل قيمة للتعاقد مقابل الصرف".
وإذا كانت المملكة راسخة بفضل الله -جل وعلا- ثم بفضل الجهود الأمنية الكبيرة التي استطاعت بحمد الله تحييد أثر أكثر من 575 اعتداء بصواريخ وطائرات مسيرة، ولم تؤثر في الحياة في المملكة، فإن التوجه العام هو دعم القوات العسكرية بطريقة تضمن كون المواطن رافدا لهذا التطوير وهنا يشير الملك إلى توطين الصناعات العسكرية، ودعم المحتوى المحلي وزيادة الفرص الوظيفية وخفض مستويات البطالة، وهنا تجد العقيدة السعودية التي تحول أي تهديد إلى مكتسبات، ونقرأ في الخطاب الملكي تحت قبة "الشورى" تلك النظرة البعيدة في استخدام الاعتداء الغاشم على المواقع النفطية في المملكة مكتسبا من خلال إثبات أن المملكة قادرة على مواجهة مثل هذا النوع من الصراع الأهوج، وتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته لأن الضرر لاحق به لا محالة، كما أثبتت المملكة أن لها اليد الطولى في اقتصاد النفطي العالمي ولن تتخلى عن هذه المكانة أبدا.
يؤكد الخطاب الملكي الدور المهم للمرأة وأنها تمثل ركنا اقتصاديا مهما، ويشير الملك بكل اعتزاز إلى أن المشاركة الاقتصادية للمرأة نمت من 20 في المائة عام 2017 إلى أكثر من 23 في المائة عام 2019، وأن هذا الاتجاه التصاعدي سيستمر كسياسة اقتصادية مهمة، وإذا كان الحديث عن التوظيف فإن المنشآت الصغيرة والمتوسطة تجد نفسها في قلب الخطاب الملكي، مع إشارته إلى ارتفاع أعداد هذه المؤسسات بنسبة 13 في المائة، هذه المسائل الاقتصادية تحقق معادلتها مفهوم التنمية الشاملة الذي أشار إليه الخطاب الملكي، وأن القطاع الخاص سيعلب دورا مهما في تحقيق ذلك، والمسار الذي انتهجته المملكة في هذا هو تعزيز ترتيب المكانة في مؤشرات التنافسية، إذ إن تحقيق المعايير العالمية في هذا الشأن يضمن المسار الذي يمكن من خلاله تعزيز مكانة القطاع الخاص ومشاركته، وقد حققت المملكة قفزات كبيرة في هذه المضمار، وستواصل المسيرة. لا شك أن الخطاب الملكي يمثل توجيها اقتصاديا عميق المحتوى ويصعب في مقالة قصيرة احتواء جميع مضامينه لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

إنشرها