مزيدٌ من الترفيه...فمزيدٌ من الملل!

[email protected]

تخيلوا لو أن هناك فواصل إعلانية أثناء المحاضرات الجامعية, أو في منتصف خطبة الجمعة مثلا!! لعلها فكرة غريبة بل مستنكرة, إلا أن الكثيرين ممن يداعبهم الملل أثناء هذه المواقف قد يعتبرونها فكرة عبقرية. فقد تكلم علماء المخ والأعصاب عن حال الإنسان المعاصر الذي بات مبرمجا على أن تقتصر قدرته على الانتباه التركيز على مدة قصيرة فقط يحتاج بعدها لاستراحة (إعلانية!) من هذا الجهد المضني, أي أن المخ يعتاد على كثرة المُدخلات المتغيرة باستمرار التي تَرِد عليه متسارعة ومتلاحقة فيُمسي عجولا لا يصبر على أي نشاط يستدعي تركيزا مستداما مثل القراءة – التي تنشط المخ وتُكَوِن فيه روابط جديدة على عكس التلفاز – والتفكير العميق والإنصات والجلوس مع النفس. بل حتى في مجال الترفيه يعجز إنساننا الحديث عن متابعة فلم فرنسي مثلا، لأن إيقاعه بطيء جدا مقارنة بالفيلم الأمريكي الذي يتغير فيه المشهد كل بضع ثوان، كما يمتلئ بالمؤثرات والأحداث المتسارعة. لذلك يقول صاحبنا المتسائل من المقال السابق إن الجلوس مع النفس صعب وممل, لأنه ببساطة فقد القدرة على ذلك ونسي نفسه. نعم! لقد حولتنا وسائل الترفيه والمُلهيات الحديثة إلى أشخاص كسولين حتى فيما يخص متعتنا, فيكفي أن نضغط بعض الأزرار – وهي عملية تستدعي جهدا ضئيلا وبالتالي (غير مملة!) – لنحصل على أغنية أو مسلسل أو لعبة فيديو تسلينا. ويصل الكسل بالبعض إلى أن يمل من أي ترفيه راقٍ و هادف؛ لأنه يفاجأ بأن عليه إعمال عقله وهو لم يأت لذلك, بل أتى ليخدره, ولم يدر أن كثرة التخدير قد تؤدي لحالة من الضمور الفكري يعجز عن علاجها المداوون.
ولكن هل تنطبق مقولة (ليس بالإمكان أبدع مما كان) هنا؟ هل حال هذا الإنسان الحديث أمرٌ من المسلمات التي لا يسعنا إلا الاستسلام لها؟ إن العلماء إذا ما أرادوا فهم النفس البشرية في حالتها الأصلية لجأوا لدراسة سلوك الأطفال ولعل ذلك يفيدنا هنا. فقد تحدثت ديبي جلاسر، وهي مختصة في علم النفس، عن تجربتها مع أطفالها عندما اضطرت عائلتها لالتزام البيت لمدة أربعة أيام دون كهرباء – وبالتالي دون تلفاز – وذلك بسبب عاصفة شديدة. ووجدت جلاسر أن شعور أطفالها بالملل في بداية الفترة إضافة إلى عدم وجود حلول جاهزة مثل التلفاز وألعاب الفيديو فجر طاقات أولادها و دفعهم لابتكار الطرق ليسلوا أنفسهم مما سمح لهم باكتشاف قدراتهم، كما تعرفوا إلى طاقات الخيال لديهم ووظفوها في حل مشكلة الملل, أي أن هذه التجربة مكنتهم من النمو العقلي والنفسي السليم. كما لاحظت أيضا أن الأسرة اندمجت أكثر وزادت درجة الحميمية بين أفرادها. وبنهاية الأيام الأربعة كانت هي وزوجها وأطفالهم في قمة السعادة والرضا.
فلعلنا بالغنا في الاحتفاء بوسائل الترفيه الجاهز و السريع, ففي حين أنها اختراعات مبدعة وشهادة على طاقات الإنسان الإبداعية، إلا أن الاعتماد عليها والاستغراق فيها إلى درجة الغفلة عن النفس نتيجته لا تسر: فقدان القدرة على الشعور بالمتعة الحقيقية, فتصبح النفس كالبئر التي لا قرار لها مهما حاولت ملأها وجدتها فارغة, فأين السعادة في ذلك؟ فما المتعة الحقيقية إذن؟ لنكتشف في المرة القادمة إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي