نمذجة الاقتصاد السعودي

أثناء قراءة تقرير وزارة المالية حول الربع الثاني للميزانية ومتابعة المعتاد حضر في ذهني تأطير الموضوع في محاولة للربط بين المعتاد (بمنزلة الثابت) وغير المعتاد (المتغير). الاقتصاد الوطني يمر بمرحلة تغير من خلال برامج الرؤية لكنه أيضا من خلال قراءة الميزانية أيضا على درجة من المعتاد - الاستقرار.

لا بد من القول أيضا إن أي نموذج يطمح لتبسيط الشرح والتركيز على الأهم بهدف محاولة التوصل للأمثل. في كل اقتصاد هناك سلع قابلة غالبا للمتاجرة (كل ما نستورد ونصدر) مع الخارج وأخرى غالبا غير قابلة للمتاجرة، مثل العقار وبعض الأصول، والأسهم وما تسمح به الدولة. السماح للاستثمار الأجنبي يخفف التركيز على الهامش فقط لأن حجمه دائما محدود عدا إنه متقلب، لذلك لا يغير كثيرا في الصورة العامة.

يبدو لي أن النظر للاقتصاد من هذه الزاوية يخدمنا أكثر من النماذج التقليدية على الأقل مرحليا. أظن الرابط بين المعتاد وغير المعتاد في خلخلة العلاقة بين القابل وغير القابل للمتاجرة أن هدف الرؤية تغيير المعتاد وبث حراك من نوع جديد نحو النمو والإنتاجية لأن المعتاد كان يراهن على الاستقرار من خلال التكيف مع دخل النفط. والتوصل إلى نموذج جديد يمر من بوابة التركيز على علاقة جوهريا مختلفة بغرض تحريك الراكد في هذه العلاقة.

أفضل طريقة لفهم الحالة، هو من خلال قطاع الأراضي، لأنه أهم أصل ثابت يبرز جزءا مؤثرا من المركز المالي للسعودية من خلال مجمل أسعار الأراضي. مرّ القطاع بتحول في الملكية من العام للخاص في العقود التي سبقت الرؤية المباركة، ومن ثم عاد الأصل أو جزء حاسم منه للقطاع العام في خطوة تطويرية مهمة.

أثناء هذا التحول كان هناك نمو سكاني وتوظيفي، في الرياض خاصة، ما رفع الأسعار وجعل تملك السكن للعوائل المبتدئة عالي التكلفة، في ابتعاد عن مستوى الدخل المتوسط. ارتفاع الأسعار بقوة في فترة وجيزة ألقى بظلاله على محاولة تعديل النموذج لأسباب غالبا عملية وإجرائية لا أعلم طبيعتها. هناك محاولة أخرى لمراجعة النموذج من خلال التخطيط ومراجعة سياسات التطوير والرسوم والاستثمار الأجنبي. الموديل الجديد ينظر للأراضي كمدخل تكلفة بغرض استعمال الأرض لأغراضها الأساسية ليس للاستثمار والمضاربة فيها. التحول الحصيف يقوم على سلاسة السوق وشفافية التداول ووضوح ومنطقية الأنظمة.

أيضا هو مدخل للصناعة، المهم هنا ألا تكون في الأراضي أي فرصة للتكسب لأن الصناعة ربما أهم منفذ لتطوير اقتصاد السعودية. في التجارة والخدمات هناك حالة وسطى بين السكن والصناعة، حاله تطلب التأثير غير المباشر في قطاع العقار، فمثلا وكما كتب كثير لا يمكن أن تكون هناك عشرات البقالات والصيدليات في كل حيّ. تنظيم قطاع تجارة التجزئة والخدمات يؤثر مباشرة في تسعير العقار ليخدم المجتمع بطريقة أكثر فاعلية- تحريك توظيف الأصول لتوجيه المال والجهد فيما يخدم الاقتصاد المستقبلي. 

للنموذج عدة فوائد منها وضوح خريطة طريق مبسطة قدر الإمكان للاسترشاد، لكنه لا يعد خطة عمل أو تحديد مستهدفات استثمارية. كما يتيح أيضا مزيدا من اليقين والطمأنينه بالتالي القدرة على التخطيط وتقليل التكلفة على المديين المتوسط والطويل. ومنها مرجعية فكرية لتأطير النقاشات لأن فتح النقاش أحيانا قد لا يكون مفيدا في ظل غياب مرجعية فكرية سهلة الفهم.

التحدي بصراحة أننا ورثنا تأطيرا غالبا غير مناسب، مثل الاهتمام بأرقام الدخل القومي الإجمالي ما دفعنا للخلط بين التوسع والنمو العضوي. هذا الاهتمام له نتائج وعواقب على سوق العمل وبالتالي على رفع الإنتاجية كأهم عامل في المدى البعيد، ومنها التركيز على المال (فمثلا حين توظف سوق الأسهم للتخارج وليس للتوسع في الاستثمارات الحقيقية) بدلا من تتبع تطور قوى الإنتاج والتوزيع الاستثماري والاستهلاكي. لا يزال هناك فرصة للمراجعة بهدوء إذا أخذنا بالنموذج المناسب.

 

مستشار اقتصادي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي