المساءلة البيئية في ثوب اقتصادي
في يوليو 2025، أصدرت المحكمة العليا في سريلانكا حكمًا تاريخيًا ألزمت فيه مالكي ومشغّلي سفينة X‑Press Pearl بدفع مبلغ تعويضي قدره 1 مليار دولار عن الأضرار البيئية والاقتصادية التي لحقت بالبلاد جراء غرق السفينة في مايو 2021. هذا الحكم، الذي وصفته عدة جهات قانونية وملاحية بأنه من أكبر أحكام التعويض البيئي في جنوب آسيا، يمثل محطة مهمة في تطور المساءلة البيئية من كونها مطلبًا أخلاقيًا إلى آلية قانونية واقتصادية قابلة للتنفيذ قضائيًا.
انطلقت الكارثة حين اشتعلت النيران في السفينة قبالة سواحل كولومبو، ما أدى إلى تسرب آلاف الأطنان من الحبيبات البلاستيكية (nurdles) والمواد الكيميائية، وأدى لاحقًا إلى غرق السفينة بالكامل. وفقًا لتقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) وأخرى مستقلة، فإن الحادث تسبّب في واحدة من أسوأ الكوارث البيئية البحرية في تاريخ سريلانكا، وأثر بشكل مباشر في التنوع البيولوجي البحري، وسُبل معيشة الصيادين، وقطاع السياحة الساحلية.
ما يميز الحكم الصادر ليس فقط حجم التعويض، بل الأساس التحليلي الذي بُني عليه. فقد استند القضاء إلى نتائج تقييم الأثر الذي أجرته هيئة حماية البيئة البحرية السريلانكية (MEPA)، إضافة إلى تقديرات اقتصادية غير رسمية أشارت إلى أن الخسائر المحتملة قد تتجاوز 6.4 مليار دولار إذا أُخذت في الحسبان الآثار طويلة الأجل على الأنظمة البيئية والاقتصاد المحلي، وفق ما ورد في تحليل نشره Pulitzer Center في يونيو 2023.
كما اعتمدت المحكمة في حكمها على مبادئ قانونية راسخة، من أبرزها:
مبدأ "الملوّث يدفع" (Polluter Pays Principle).
المسؤولية المطلقة عن الأنشطة الخطرة Strict Liability، باعتبار أن الشحنة كانت تحتوي على مواد خطرة بطبيعتها.
الإحالة إلى الاتفاقيات الدولية مثل MARPOL واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، لتثبيت التزامات مشغلي السفن والشركات متعددة الجنسيات.
وأوضحت المحكمة أن المبلغ المحكوم به سيُستخدم لإنشاء صندوق تعويضات بيئية وتنموية بإشراف لجنة حكومية قضائية، تُعنى بإدارة التعويضات وإعادة تأهيل المناطق المتضررة. ووفق تقرير لـ Seatrade Maritime، فإن الحكم شمل أيضًا إلزام شركات التأمين والوكيل المحلي للسفينة بتحمل جزء من المسؤولية، ما يبرز تطورًا نوعيًا في مفهوم المسؤولية المشتركة في الحوادث البحرية ذات الأثر البيئي.
لكن القضية لم تخلُ من الجدل. فقد أُثيرت انتقادات حادة تجاه تعامل النائب العام السابق الذي حاول نقل القضية إلى سنغافورة، الأمر الذي اعتبره قضاة المحكمة العليا انتهاكًا لحقوق المواطنين وتهربًا من المساءلة المحلية، وفق تقرير نشره موقع Hiru News السريلانكي في يوليو 2025.
هذه السابقة القضائية تقدم درسًا مزدوجًا: فهي تؤكد أولًا على قدرة المحاكم الوطنية في الدول النامية على مساءلة الشركات الدولية وفق معايير العدالة البيئية، وثانيًا تُعيد تعريف البيئة كمورد اقتصادي يستحق الحماية والتعويض الكامل في حال تضرره. لم يعد التلوث يُعامل كأمر فني أو خسارة رمزية، بل كخطر مالي يمكن قياسه، ومحاسبة المتسبب به بموجب القانون.
وفي ظل تصاعد الكوارث البيئية المرتبطة بالنقل البحري وتجارة المواد الكيميائية، تمثل قضية X‑Press Pearl نموذجًا مهمًا لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والشركات، وبين الاقتصاد والبيئة. وهو ما يُوجب على الدول أن تطوّر أدواتها القانونية والتقديرية، وعلى الشركات أن تعيد التفكير في إستراتيجيات إدارة المخاطر، قبل أن تتحول الأخطاء البيئية إلى مطالبات مالية بمئات الملايين من الدولارات.
مستشارة في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية