مسلسل الهروب الكبير: لماذا نكره الملل؟

لعل شكوى الكثيرين من الملل من مفارقات عصرنا الحديث, فعلى الرغم من وفرة وسائل الترفيه والمُلهيات يتزايد شعور الصغار والكبار بقلة الرضا والملل ويعيش كثير من الناس في حالة من الانتظار الدائم (بوعي أو بغيره) لشيء ما يأتي في المستقبل ليجعل حياتهم أكثر إثارة ومتعة. فما ذلك الشعور الذي يهاجمنا في كل حين ويفر منه الجميع فرارهم من قسورة؟
إن شعورنا بالملل يعني فقداننا الاهتمام بالمحيط الخارجي وما يوفره من مثيرات وأحداث, وقد يكون شعورا عارضا وهذا طبيعي, أما إن كان حالة مستمرة من البلادة فلعلنا نتفق أنه يستدعي حلا جذريا. فأما الشعور العارض فهو منبه داخلي يشير إلى حاجة إنسانية مهمة ومهملة: (التفكر مع النفس). فالحقيقة أن كل إنسان لديه حالتان ملازمتان له في كل لحظة من حياته، إحداها خارجية وتتمثل في محيطه الخارجي، كما ذكرنا، والأخرى داخلية وهي ما يختلج في قلبه وروحه وعقله. وبما أن الملل هو قلة اهتمام بما يدور خارجنا, فلِمَ لا نعتبره دعوة للالتفات إلى دواخلنا؟ بل لِمَ نسارع إلى البحث عن أي شيء يلهينا عن نفوسنا؟ بالتأكيد لن نعجز عن العثور عن آلاف المُلهيات من أفلام وألعاب إلكترونية وإنترنت وغيرها, وهي لا شك مفيدة إلا في حال تحولت إلى وسيلة فِرار، مثل المخدر الذي يعطي مستخدمه نشوة وقتية سرعان ما تزول وتذوي ثم ينشد الجرعة الأكبر فينتهي به الأمر مدمنا على تكنولوجيا الهروب. أمن العقل تجاهل الداخل لصالح الخارج دائما لا بل تعمد الهروب من مواجهته؟ ولعلي أسمع سائلا يستفهم : وما أهمية الالتفات للداخل؟ ماذا سيفيدني؟ ويبدو أن صاحبنا لم يجرب ذلك يوما فلنعذره على سؤاله ونجاوبه بغيض من فيض من فوائد الجلوس مع النفس:
1. لأن هذه هي الطريقة المثلى للتعرف إلى نفسك التي بين جنبيك. وعلى الرغم من أن الكل يظن أنه يعرف نفسه تمام المعرفة, إلا أن الواقع يُظهر أن الكثير منا يعرفون أحداث مسلسلهم المفضل أو أخطاء وعيوب مديريهم وأزواجهم أكثر مما يعرفون نفوسهم بدوافعها ونزعاتها وعيوبها ومحاسنها وتناقضاتها.
2. لأننا نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا ونحاسبها بين حين وآخر، وهذا ما أقسم به الله عز وجل في كتابه حين قال: "لا أقسم بيوم القيامة, ولا أقسم بالنفس اللوامة". وما هذا إلا دليل على عِظَم وأهمية مراجعة النفس, وكيف تراجعها أيها المتسائل الكريم إن لم تجلس معها؟!
3. لأن التفكر مع النفس يحفز الخيال ويمرنه ويطلق له العنان, وهذا ما يفجر طاقات الإنسان الإبداعية.
4. لأنك تحتاج إلى وقت مع ذاتك لتتأمل في كل التساؤلات والمشاغل التي تَرِد على قلبك وعقلك، والتي لا تلتفت لها إن كنت مشغولا بالعالم الخارجي.
وبعد كل هذه الثمرات للملل - الذي حان الوقت لأن نعيد النظر في تسميته: الجلوس مع النفس مثلا - يصر متسائلنا على مقاومته ويقول: يبدو هذا صعبا جدا بل (مملا!), ولنترك الرد عليه للمقال المقبل بإذن الله تعالى....

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي