Author

«الاسترشاد الوراثي الوقائي» - المتطلبات والفاعلية

|
الاعتلالات الوراثية المسببة لأمراض الدم من أكثر الاعتلالات الوراثية حدوثاً وانتشاراً في المملكة العربية السعودية والعالم، وهي تتوارث من الآباء والأمهات للبنين والبنات، من حيث كونها صفة متنحية (مستترة) لا تظهر كمرض له أعراض صحية لدى حامليها إلا في حالة توارث ''النسخة'' الوراثية المعتلة من كلا الأبوين الحاملين لهذه ''النسخة'' المعتلة، وبالتالي غياب ''النسخة'' السليمة، مما يتيح للصفة الوراثية المتنحية الظهور والتأثير.. وكون الاعتلالات الوراثية ''المتنحية'' لا تؤدي إلى ظهور أعراض مرضية لدى حامليها لوجود ''نسخة'' غير معتلة مصاحبة تخفف من تأثيرها وتحجب انعكاساتها الصحية، فإن الإرشاد ''التنوير'' محوري لتوضيح طبيعة التوارث ونتائجها في إظهار أو حجب بعض الصفات الظاهرة وكيفية تناسل المادة الوراثية بين الأجيال المتعاقبة وتأثيراتها الحيوية والصحية ووسائل الوقاية من المورثات المعتلة وآثارها والحد من النتائج السلبية الناتجة عنها. وتتمثل الأمراض الوراثية في مجموعة من الأمراض ينتج عنها العديد من الأعراض والمضاعفات الصحية المزمنة، تتولد عن اعتلالات وراثية متعددة في الحقيبة الوراثية، منها اعتلالات صبغية ''مثل متلازمة داون'' واعتلالات عديدة المسببات (وراثية وبيئية ـــ كداء السكري) وطفرة الخلية الجسدية ''كبعض الأمراض السرطانية'' واعتلالات المتقدرات ''كالعمى الوراثي'' واعتلالات المورثة الواحدة ''كأمراض الدم الوراثية'' وهي أمراض مزمنة وفي معظمها عصية على العلاج الطبي الناجع، ويتطلب علاج معظمها رعاية مستمرة طيلة الحياة، فضلاً عن انعكاساتها السلبية على حياة المصاب وأفراد أسرته، اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً. ولذلك تنصب جهود مكافحة الأمراض الوراثية والحد من تأثيراتها السلبية، على وسائل الوقاية، والحد من ولادة أطفال مصابين بهذه الأمراض عن طريق الكشف المخبري ضمن برنامج الزواج الصحي ''الفحص قبل الزواج'' والاسترشاد الوراثي الوقائي. كما أنه بالإمكان الإفادة من مراحل عدة يتم خلالها إجراء الفحص المخبري والتدخل المبكر لمكافحة هذه الأمراض، منها الفحص أثناء الحمل، الفحص الشامل لأفراد المجتمع أو طلبة المدارس أو الجامعات، أو الفحص قبل زرع النطفة في رحم الأم عند إجراء التلقيح خارج الرحم، وجميع هذه المراحل لها محددات شرعية أو أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية متفاوتة، وأقلها تلك التي تتعلق بمرحلة الفحص قبل الزواج، حيث يتم التدخل مبكراً ، ويرتكز على حق الاختيار السليم للزوج والزوجة. وقد أباح ''الشارع'' للناس الأخذ بوسائل الوقاية من خلال الاختيار، فالشريعة السمحة قد عنيت بجوانب عدة تتمثل في تحقيق مقاصد الشريعة المتمثلة في الحفاظ على الدين والعقل والنسل والنفس والمال والعرض. وأخذاً في الاعتبار المقتضيات الشرعية، وكون الزواج ميثاقا شرعيا وركيزة اجتماعية والتزاما أسريا له حقوق وعليه واجبات، وتمشياً مع التوجيهات النبوية الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في اختيار المرأة الصحيحة الجسد والعقل ـــ حيث قال لرجل خطب امرأة: ''انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا'' أخرجه مسلم، مما يدل على طلب معرفة العيوب الشخصية والوقوف عليها قبل الزواج، ومنع الغرر. وفي العصر الحديث، مكن التقدم العلمي والطبي من إظهار عوامل معتلة غير ظاهرة للعيان كمرض، عن طريق الفحص المخبري، كما هو الحال في حالات فقر الدم الوراثي ''صبغة الدم المنجلية والثلاسمية''، مما أتاح المجال للفحص قبل الزواج للوفاء بلوازم الزواج ومقتضياته الصحية، عملاً بقول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم: ''لا يورد ممرض على مصح'' رواه البخاري ومسلم، ولذا، تبنت وزارة الصحة مخرجات الدراسات والبحوث ومقترحات ''مجموعة العمل الوطنية التطوعية'' و''اللجنة الوطنية للأمراض الوراثية'' (أنشأت في وزارة الصحة عام 1410هـ)، وعملت على إجازة برنامج الفحص قبل الزواج، وفي ضوء هذا السياق صدر قرار مجلس الوزراء رقم 156 وتاريخ 14/9/1418هـ، المتعلق باعتماد الفحص قبل الزواج في الزواج المختلط (السعودي والأجنبي)، ثم قرار مجلس الوزراء رقم 5 وتاريخ 4/1/1423هـ، المتعلق ''بأن تقوم وزارة الصحة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين متطلبات الفحص قبل الزواج لمن يرغب في ذلك من السعوديين''، ثم قرار مجلس الوزراء برقم 3 وتاريخ 7/11/1424هـ، المتعلق بالفحص الإلزامي قبل الزواج بدءا من 1/1/1425هـ، وأخيراً قرار مجلس الوزراء بتاريخ 8/4/1429هـ المتعلق بإضافة فحص التهاب الكبد الفيروسي والإيدز إلى البرنامج، وتعديل المسمى إلى ''برنامج الزواج الصحي''. وتتمثل فاعلية البرنامج في نجاح ''الاسترشاد الوراثي الوقائي'' ومخرجاته من حيث نسبة من يكملون إجراءات الزواج من حاملي أمراض الدم الوراثية، ففي بداية البرنامج ــــ المرحلة الاختيارية ـــ دلت الدراسات والإحصائيات على أن حوالي 89 في المائة ممن ثبت أنهم حاملون للاعتلالات الوراثية لأمراض الدم يكملون إجراءات الزواج على الرغم من نتائج الفحص المخبري ودلالاته، ومع مرور الوقت حتى حال تأريخه، انخفضت النسبة لتصل إلى حوالي 25 في المائة من حاملي المورثات المعتلة يكملون إجراءات الزواج، وهي نسبة لا تزال تعتبر عالية مما يستلزم تكثيف الجهود والإرشاد والتوعية والتثقيف على مختلف المستويات وفي جميع مناطق المملكة وتضمينها تسهيلات إضافية وتنمية القوى البشرية المتخصصة في هذا المجال ودعمها بخبرات كفؤة إضافية وتكثيف طرق ووسائل ''الإرشاد الوراثي الوقائي''، وذلك من خلال ما يلي: 1- إدراج عناصر الوراثة وعلومها في برامج التعليم العام كمكون من مكونات علوم الأحياء والصحة. 2- التوسع في تدريس علوم الوراثة واعتلالاتها ووسائل الوقاية منها ورعاية المصابين بها وتأهيلهم، في الكليات الصحية، كونها معضلة صحية في المملكة العربية السعودية. 3- إعداد وتنمية القوى البشرية المتخصصة، وإيجاد برامج للتعليم والتدريب والتثقيف المستمر وبرامج تأهيل أكاديمية موجهة على المستوى ما بعد الجامعي. 4- دعم مراكز أمراض الدم الوراثية في مناطق المملكة وتحديث وتكثيف وسائل التوعية والإرشاد والخدمات فيها. 5- إنشاء مراكز مرجعية في مناطق المملكة تقدم خدمات الكشف الدقيق وتقدم الدعم المعرفي ـــ العلمي والطبي والخدمي ــــ لمراكز أمراض الدم الوراثية، وتتكامل معها في تقديم الخدمات الوقائية والرعاية والتأهيل. ويبقى دور الأفراد، ثم الأسرة والمجتمع ككل، في التفاعل مع برنامج ''الزواج الصحي'' ومعطياته الوقائية، وتوخي الإصحاح في الأبناء والجيل القادم. ويبقى البرنامج الوقائي في إطار التنوير وليس المنع من حيث الإلزام بإجراء الفحص المخبري مع الحفاظ على حق اتخاذ القرار بإتمام إجراءات الزواج من عدمه. والأمل معقود على فاعلية التوعية في إيصال الرسالة الوقائية، وتفاعل المجتمع مع جهود الوقاية خدمة للصالح العام في تحقيق أهدافه المرجوة في تجنب ما من شأنه إصابة الأبناء بالأمراض المزمنة وتحقيق هدف الإصحاح في المجتمع. وفي مجال الأمراض المعدية الخطرة يبين المرشد الوقائي تداعيات الإصابة ووسائل العلاج إن وجدت، توخياً لتجنب انتقال هذه الأمراض إلى الزوج (أو الزوجة) ودفع الضرر عن السليم بإذن الله. والله الهادي إلى سواء السبيل..

اخر مقالات الكاتب

إنشرها