أبعاد واحتمالات المحنة الفلسطينية الجديدة
في الذكرى الأربعين لنكسة حزيران (يونيو) 1967 التي ضاعت فيها القدس الشرقية بمسجدها الأقصى والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة واكتمل بذلك الاحتلال الإسرائيلي لكل أراضي فلسطين التاريخية، تتعرض القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني لواحدة من أكبر وأخطر المحن التي واجهتها منذ إعلان الدولة العبرية في 15 أيار (مايو) 1948. والمحنة هذه المرة هي الأكبر وهي الأخطر بسبب طبيعتها وأطرافها المباشرة وغير المباشرة وبسبب ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج على أوضاع الشعب الفلسطيني الحالية ومستقبله القريب والبعيد.
فأطراف المحنة المباشرة هذه المرة ليسوا مجرد فصائل فلسطينية متقاتلة أو قوى سياسية متصارعة، بل هما الفصيلان الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني فيما بعد نكبة 1948، حركة فتح وحركة حماس. وليس ذلك فقط، فالفصيلان المتقاتلان خاضا انتخابين ديمقراطيين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة هما الانتخابات الرئاسية في كانون الثاني (يناير) 2005 التي فاز فيها زعيم حركة فتح السيد محمود عباس بالمنصب بنسبة جاوزت الـ62 في المائة من أصوات الناخبين، والانتخابات التشريعية التي جرت في كانون الثاني (يناير) من العام التالي (2006) وفازت فيها حركة حماس بأغلبية وصلت إلى نحو 60 في المائة من مقاعد المجلس التشريعي. وبمطالعة نسب الإقبال على التصويت في هذين الانتخابين يتضح أكثر حجم الكارثة التي يواجهها الشعب الفلسطيني حالياً، فقد جاوزت في الانتخابات الأولى 66 في المائة في حين اقتربت في الثانية من نسبة 78 في المائة، ما يعني أن كل من الحركتين المتقاتلتين قد حاز في كل من هذين الانتخابين على تأييد واسع من فئات متنوعة وواسعة من الشعب الفلسطيني. الحركتان المتقاتلتان اليوم ليستا فقط حائزتين على هذه النسب العالية من تأييد الشعب الفلسطيني في تلك الانتخابات، بل هما أيضاً تعملان في وسط مختلف الفئات والطبقات والمناطق والتجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج منذ عقود طويلة من الزمن، استطاعتا خلالها أن تصبحا جزءاً عضوياً وأصيلاً من النسيج السياسي والاجتماعي المستقر للشعب الفلسطيني.
إذاً عندما يدور الصدام والقتال اليوم بهذه الطريقة الآخذة في التصاعد بين الحركتين الكبيرتين بكل ما لهما من وجود وتأييد بهذا الحجم في الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج، فهذا يعني أن مخاطر الحرب الأهلية الفلسطينية ليست مجرد "احتمالات نظرية" أمامها وقت طويل حتى تتحول إلى واقع دام، بل هي الآن داهمة حالة تلوح في الأفق شديد القرب. ولكي يتضح أكثر حجم تلك المخاطر ومدى الكارثة التي يمكن أن يهوي فيها الشعب الفلسطيني، يكفي المراقب أن يعرف أن التأييد لكل من حركتي فتح وحماس ليس موزعاً على شرائح وفئات وعائلات منفصلة عن بعضها من الشعب الفلسطيني، بل إنهما تخترقان كل تلك الشرائح والفئات والعائلات لتصلا إلى الأسر الصغيرة التي يتصادف أحياناً أن تضم إخوة موزعين بين الحركتين. اتساع الصدام وتعمق جذوره وتعدد محاوره هذه المرة يهدد النسيج الاجتماعي الفلسطيني في الداخل وفي المهاجر بالتعرض للمرة الأولى لتهديد حقيقي لم يتعرض له من قبل حتى في أقسى لحظات المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث كان التهديد دوماً يمس الحقوق الأولية للشعب الفلسطيني وأولها حقه في الأرض والوطن وتقرير المصير، ولم يستطع أبداً أن ينال من وحدة ذلك النسيج الاجتماعي الذي اتسم دوماً بالتماسك.
أما عن النتائج المباشرة المحتملة فهي تزيد من خطورة المحنة التي يتعرض لها الفلسطينيون اليوم. فأولى تلك النتائج هي تحويل "المنافسة" الطبيعية بين فتح وحماس كحركتين سياسيتين – اجتماعيتين إلى صراع صفري بينهما لا حل وسط فيه ولا مخرج منه سوى بالهزيمة الكاملة لأحدهما على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وهو ما يحيلنا إلى مفارقة عبثية ما كان أحد يتخيلها في يوم من الأيام. فهذا النوع من الصراعات كان هو السائد بين الفلسطينيين والدولة العبرية حتى وقت قريب، وهو النوع الذي سعت أطراف دولية وعربية عديدة لتغييره ليصبح صراعاً قابلاً للحل الوسط، وكانت حركة فتح هي أول وأبرز الفصائل الفلسطينية التي أيدت هذا السعي وانخرطت فيه عملياً منذ عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم التحقت بها حركة حماس بعد فوزها بأغلبية المجلس التشريعي بقبولها إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. والنتيجة الثانية المباشرة الخطرة للتقاتل الفلسطيني الحالي هي الاحتمال الذي بات داهماً لتقسيم الأراضي الفلسطينية بين غزة "الحمساوية" والضفة الغربية "الفتحاوية" في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني، لتقع بذلك الكارثة السياسية والاجتماعية والجغرافية التي فشلت سنوات الاحتلال الإسرائيلي الستين في تحقيقها، ولتقع على أيدي بعض من أبناء هذا الشعب المقهور البطل. بهذا الاحتمال الخطير الداهم سينقسم الشعب الفلسطيني إلى ثلاثة كيانات منفصلة على أرض فلسطين التاريخية، أحدها بداخل الدولة العبرية والاثنان الآخران في قطاع غزة والضفة الغربية بينما يتشكل الرابع والأخير من فلسطينيي المنافي الموزعين في أركان الأرض الأربعة.
هذه هي أبعاد المحنة الفلسطينية الجديدة واحتمالاتها الكارثية، ويبقى بعد كل هذا السؤال: هل يغيب كل ذلك عمن يدفعون الأوضاع إلى مزيد من التدهور والصدام والتقاتل، أم أنهم واعون لما هم فاعلون؟