تطوير المنظومة المالية السعودية .. تعزيز التوزان بين النمو والرقابة
التوازن بين الحفاظ على الاستقرار المالي وتمكين الابتكار ليس مهمة سهلة لكنها قابلة للتحقيق
مع مواصلة السعودية تنفيذ مستهدفات "رؤية 2030"، يبرز القطاع المالي كأحد المحركات الرئيسية لتنويع وتعزيز الاقتصاد وتثبيت السعودية كمركز مالي إقليمي. وحققت الجهات التنظيمية، وعلى رأسها البنك المركزي السعودي (ساما) وهيئة السوق المالية، إنجازات كبيرة في ترسيخ الاستقرار المالي وتعزيز الثقة في المنظومة، وهو ما يشكل قاعدة صلبة لتنفيذ طموحات برنامج تطوير القطاع المالي عليها في المرحلة المقبلة.
ومع تطور طبيعة الخدمات المالية وظهور نماذج أعمال جديدة، تزداد الحاجة إلى إطار تنظيمي مرن ومحفّز للنمو، يأخذ بالحسبان خصوصية هذه الأنشطة دون التفريط بمتانة النظام المالي. ولتحقيق النمو الاقتصادي المستهدف، تتجه الأنظار إلى فرص تطوير الإطار التنظيمي بطرق تسهم في تمكين الابتكار، وتوسيع المشاركة، وجذب الاستثمار الأجنبي.
الحاجة إلى إطار أكثر تخصيصاً
رغم أن النهج المركزي الحالي في الإشراف المالي أثبت فاعليته في ضمان الانضباط والاستقرار، فقد يواجه تحديات مع اتساع نطاق القطاع وسرعته في النمو وتعدد الجهات الفاعلة فيه. وفي هذا السياق، يُعدُّ صدور نظام الشركات الجديد مثالاً بارزاً على التوجه نحو تحديث البيئة التنظيمية لمواكبة متطلبات المرحلة المقبلة من النمو الاقتصادي المستهدف. فقد أُجريت عليه تعديلات جوهرية تهدف إلى تسهيل إجراءات تأسيس الشركات، وتوسيع نطاق الأشكال القانونية المتاحة، وتوفير مرونة أكبر في هيكلة الشراكات، ما يسهم في تعزيز جاذبية السعودية للاستثمارات النوعية ورفع تنافسيتها على المستويين الإقليمي والدولي.
وعليه، فقد حان الوقت لإعادة النظر في الإطار التنظيمي الحالي للخدمات المالية، بما يواكب تطلعات السعودية ويعزز من قدرتها على تحقيق أهدافها التنموية الطموحة، وترسيخ مكانتها كمثال ريادي على المستوى العالمي في بناء قطاع مالي متطور.
خطوات عملية لدعم النمو
هناك عدد من المبادرات التي يمكن أن تشكل محفزات فورية لدعم القطاع، منها:
تبسيط متطلبات التراخيص من خلال تقليص الزمن المستغرق للحصول عليها، وتفعيل المنصات الرقمية الشاملة لتقديم الطلبات ومتابعتها.
إعادة النظر في آلية منح الترخيص والإشراف على الجهات المرخصة لأتمتة ورقمنة الإجراءات ومراجعة دور الجهات التي تُمنح التراخيص، وضمان وضوح المعايير المستخدمة في تقييم الطلبات، بما يعزز الشفافية والنمو الاقتصادي.
إعادة النظر في المتطلبات الرأسمالية للشركات المالية والصناديق التمويلية، ولا سيما تلك التي لا تنطوي على مخاطر كبيرة مثل الأنشطة البنكية، وذلك بهدف تسهيل دخول الشركات الناشئة.
تبني نهج رقابي قائم على المخاطر، بحيث تُمنح الكيانات الملتزمة والفاعلة مرونة أكبر، بينما تُركّز الرقابة على الأنشطة العالية المخاطر، مثل البنوك الرقمية والأنشطة التي تتكل على استثمار الأفراد غير المؤهلين.
إتاحة فترات تدرّج للامتثال التنظيمي في ما يتعلق بالتوطين ومتطلبات الموارد البشرية، بما يسمح للشركات الجديدة بالاستقرار قبل الدخول في التزامات مكثفة.
تجارب دولية ومحلية مشجعة
تشير التجارب العالمية إلى أن وجود إطار تنظيمي شفاف، مرن، وقابل للتحديث، هو أحد عوامل الجذب الرئيسة للاستثمارات الأجنبية، خصوصاً في القطاعات المالية المتقدمة. وفي السياق المحلي، هناك اهتمام متزايد من قِبل مستثمرين دوليين وشركات تقنية مالية عالمية بالدخول إلى السوق السعودية، وهو ما يظهر الثقة المتنامية في البيئة الاستثمارية. وقد يساعد تعزيز التنسيق بين الجهات ذات العلاقة، وتسريع بعض التحديثات التنظيمية، على تحويل هذا الاهتمام إلى استثمارات قائمة على الأرض.
أمثلة على التعديلات المقترحة:
تخفيض متطلبات رأس المال المدفوع لشركات التمويل الخاصة: كيف يمكن معالجة فجوة التمويل في السوق بينما رأس المال المشروط يراوح بين 50 إلى 200 مليون ريال سعودي، ويستغرق الحصول على الترخيص من سنتين إلى 3 سنوات؟ من الضروري تقليل هذه المتطلبات لتشجيع دخول شركات جديدة وتسريع تدفق التمويل نحو السوق، ولا سيما نحو المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
خفض الحد الأدنى لحجم الصناديق الاستثمارية الخاصة المباشرة من 50 مليون ريال إلى 5 ملايين ريال: هذا التعديل سيمكّن مديري الأصول من إطلاق صناديق تمويل أكثر مرونة وتخصصاً، ويُسهّل تدفق الائتمان الموجه للقطاعات الإنتاجية، ما يدعم نمو الشركات الناشئة والمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
السماح ببيع محافظ التمويل لمستثمرين أجانب: إذا لم يُسمح ببيع محافظ التمويل لجهات أجنبية، فكيف يمكن تحسين تدفق السيولة إلى الداخل وإعادة تدوير رأس المال في الاقتصاد؟ تمكين هذه الآلية سيسهم في جذب رؤوس أموال خارجية، ويعزز من عمق السوق الثانوية، ويدعم استدامة دورة التمويل في السعودية.
نحو مستقبل مالي أكثر حيوية
ما تسعى إليه السعودية ليس مجرد توسيع حجم القطاع المالي، بل بناء منظومة مالية عصرية، قادرة على استيعاب الابتكارات، وتحفيز المنافسة، ودعم النمو الشامل. ولتحقيق ذلك، فإن التحديث التنظيمي يجب أن يُنظر إليه كجزء من رحلة التطوير المستمرة، وليس كبديل عن المنجزات السابقة.
إن التوازن بين الحفاظ على الاستقرار المالي من جهة، وتمكين الابتكار من جهة أخرى، ليس مهمة سهلة، لكنه قابل للتحقيق بفضل الانفتاح الذي تبديه الجهات التنظيمية، ورغبتها الواضحة في تحسين التجربة الاستثمارية، ودفع عجلة التنوع الاقتصادي قدماً.
خاص بـ "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ"
مصرفي سابق، أسس شركة رسملة للاستثمار، وتولى سابقاً رئاسة اللجنة التنفيذية في البنك السعودي الهولندي.
مستشار مالي وإستراتيجي بمجالات التقنية والاستثمار وتطوير الأعمال. عمل سابقاً مع البنك المركزي السعودي و"ستاندرد تشارترد".