البيئة تعيد رسم خريطة السوق

ما كان يُنظر إليه في السابق كقضية أخلاقية أو مسؤولية طوعية، أصبح اليوم مسألة قانونية وتجارية تُؤثّر فعليًا في بقاء الشركات ومكانة الدول داخل الأسواق العالمية. لم تعد البيئة على الهامش. لقد أصبحت عنصرًا حاكمًا يعيد تشكيل قواعد النفاذ، ويرفع أو يُسقط أهلية الدخول.

هذا التحول ليس مجرد توجه سياسي أو ضغط مجتمعي، بل أصبح مدعومًا بمنطق قانوني يتسع بسرعة. قبل أيام، أصدرت المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان رأيًا استشاريًا تاريخيًا اعتبرت فيه أن المناخ المستقر هو حق من حقوق الإنسان. المحكمة لم تكتفِ بالإشارة إلى مسؤولية الدول، بل أكدت أن الشركات، خاصة في القطاعات الملوّثة، تتحمل واجبًا قانونيًا مباشرًا لحماية المناخ، وقد تُطالب بتعويضات عن الأضرار التي تُلحقها بالمجتمعات.

هذه الرؤية لم تعد محصورة في أمريكا اللاتينية. المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سبقتها في ربط تقاعس الحكومات بالحق في الحياة، ومحكمة العدل الدولية تستعد لإصدار رأيها الخاص حول مسؤولية الدول تجاه المناخ.

نحن أمام مسار قانوني عالمي يعيد تعريف العلاقة بين الاقتصاد والبيئة والحق. لكن الأثر لا يظهر في المحاكم فقط، بل في قواعد التجارة نفسها. خذ على سبيل المثال قانون إزالة الغابات الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ في 2025. هذا القانون يمنع دخول منتجات مثل زيت النخيل والقهوة وفول الصويا ما لم تثبت الشركات أنها خالية من التسبب في إزالة الغابات. لم يعد الامتثال البيئي خيارًا، بل أصبح شرطًا للنقل، والتسعير، والتوزيع.

وهنا يبرز دور السلطات الجمركية التي لم تعد تكتفي بتفحّص البضائع من حيث السعر أو الأصل، بل أصبحت مسؤولة عن التحقق من التزام المنتجين بالمعايير البيئية، من خلال شهادات تتبّع، وتحليل الأثر، ومراجعة سلاسل الإمداد. الجمارك اليوم أصبحت شريكًا في ضبط الامتثال البيئي، لا مجرد بوابة عبور.

أما في القطاع المالي، فقد تغيرت قواعد اللعبة كذلك. باتت المؤسسات الاستثمارية الكبرى تضع الإفصاح عن الانبعاثات شرطًا للتمويل، وتحليل المخاطر البيئية معيارًا لتقييم الجدارة. التمويل الأخضر لم يعد مبادرة اختيارية، بل أصبح آلية تفاضل تحدد من يحظى بالثقة ومن يُستبعد.

وفي هذا السياق، بدأت قضية التعويضات المناخية تخرج من إطار النقاش السياسي لتدخل ساحة التقاضي. لم يعد غريبًا أن تُقاضي مجتمعات متضررة حكومات أو شركات بسبب التلوث أو الإهمال البيئي. المبدأ القانوني أصبح واضحًا: من تسبب في الضرر، عليه أن يدفع. ومن تقاعس عن الحماية، عليه أن يتحمل المسؤولية.

كل هذه المؤشرات تُجمع على أمر واحد: البيئة لم تعد مجرد التزام أدبي، بل إطار قانوني واقتصادي يُحاسب ويمنح الشرعية. الأسواق تتغيّر، والمنافسة لم تعد فقط على الجودة والسعر، بل على الشفافية البيئية، وجدية التكيّف، ووضوح المسار نحو الحياد الكربوني.

وهنا يبرز السؤال الحقيقي:

هل نماذج الأعمال التي نعتمدها اليوم، قادرة على الاستمرار في عالم تُقاس فيه الانبعاثات كما تُقاس الأرباح؟ وهل مؤسساتنا مهيأة للدخول في سوق تُحدده شروط بيئية صارمة، لا مجرد اتفاقات تجارية؟ ما يحدث اليوم ليس تغييرًا في التفاصيل، بل إعادة صياغة للمعايير. البيئة أصبحت بوابة السوق الجديدة، ومن لا يدخل منها، سيُغلق عليه الباب.

 

مستشارة في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي