التلوث الوردي

فوجئنا جميعا بصور المادة المسكوبة في شواطئ سيهات، مادة لونها وردي أو "أحمر فاقع" كما وصفتها بعض الصحف. رآها الجميع وهي تنسكب وتتقلب على سطح الماء وكأنه مصب سيل في حالة "فانتازيا" وردية! أشارت النتائج الأولية للفحوص التي أجرتها الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة إلى أن المادة نفطية وملوِثة على الرغم من "ورديتها" الغريبة، لكن لم يعرف مصدرها حتى الآن بعد سلوكها لمجاري الصرف الصحي طريقا إلى البحر.
لون التلوث أسود، بل هو حالك السواد. هو مقيت ومدمر ومؤلم وإن ظهر لنا بألوان وردية تحت شمس ماء الخليج وهو يمتزج بين أمواجه. والسؤال الأكبر: ماذا لو كانت هذه المادة النفطية – التي لا تزال تخضع لاختبار تحديد ماهيتها – بلا لون؟ ماذا لو سكبت مع مياه البحر الضحلة ولم يلاحظها أحد؟ هل يوجد أصلا ما يضمن عدم حصول مثل هذه الحوادث – أو الجرائم ربما – بصفة يومية ومستمرة؟ لا أعتقد.
المشكلة أن هذه السلوكيات لا تحصل من الأفراد فقط، إنما من المؤسسات كذلك، وهذا يعني أن المشكلة السلوكية متأصلة في ثقافة المجتمع بكل أشكاله. ظهورها على المستوى الفردي ليس شاذاً أو مختلفاً، بل يتم تعزيزه بسلوك المجموعة وربما تبريره بخطابات واجتماعات ولجان تفرق مسؤولياتها بين الأطراف والأوقات. وهذا يعيدنا إلى دور المؤسسة في تحديد وضبط ما يحصل على المستوى الفردي، هذا الدور الذي لا يحصل إلا بوجود قائد شجاع وحريص ومهاري يعرف كيف ينقل الفكرة إلى العمل والجوهر إلى الشكل، بلا تناقضات ولا فضائح.
إذا تناولنا الدور الأخلاقي للمؤسسات تجاه البيئة، سنجد أن العنصر الأساسي الذي يربط بين البيئة والمجتمع وبين المؤسسة وأعمالها هو القائد. هو من يقر ويتعهد بالالتزامات المحددة – الضمنية والمكتوبة – وهو من يوجه جهود مؤسسته نحو التطبيق ويملك آليات متابعة هذا التطبيق أو على أقل تقدير، الاعتراف بالفشل والتنحي. أي تجاوز مؤسسي يحصل تجاه البيئة يضعنا بمواجهة سؤال بحجم المشكلة: هل هذا القائد كفء؟! مما تقتضيه الكفاءة هنا الوعي والمهارات القيادية الملائمة لهذا العصر تحديدا.
اللحظة التي يتولى فيها الفرد أي امتياز قيادي، تولد فيها مسؤوليته الأخلاقية المضاعفة تجاه مجتمعه. فهو لا يحرص فقط على حسن أدائه مهام شخصية محددة، بل يصبح مسؤولا عن حسن أداء الآخرين! وكما أن القانون لا يحمي المغفل، فالمسؤولية لا تسقط عن القائد الجاهل، خصوصاً مع سهولة الحصول على المعرفة.
لا يعد ما حصل في سيهات حدثاً فريداً من نوعه، فالحديث عن الفنادق والمنتجعات السكنية الكبرى التي ترمي فضلاتها في سواحل جدة لا ينتهي، ناهيك عن المصانع الكبرى التي تنتشر بطول شواطئنا تستغل البحر وترفد من شواطئه وتعزلها عن أهلها وترد إليها – مع الأسف - ما هو أسوأ من ذلك بكثير.
متابعة ملامح الوعي البيئي لدى المؤسسات تعطينا لمحة موجزة عن مستوى تأثير قياداتها في مجتمعاتهم الصغيرة والمهمة. وهذا يجرنا إلى استدراكات عديدة، ما المؤسسات التي يسمح صناع القرار فيها برمي الفضلات في الخفاء حتى لو كانت تجتمع في شواطئ الآخرين؟ من أين يأتي هؤلاء القادة يا ترى؟ هل تلتزم المؤسسات الكبرى "بالأكواد" الأخلاقية؟ وهل تعرفها أصلا المؤسسات الصغرى؟! حالة الغموض والفوضى في الالتزام الأخلاقي تجاه المجتمع تجعل ملامح الأخلاقية لقيادي المؤسسات قاتمة جداً. لن يتحرج من يرمي المشتقات النفطية في الشواطئ الترفيهية من رمي منتجاته الرديئة في أيدي الأطفال، وربما يفعل ما هو أخطر من ذلك.
لا يعفي تأخر بعض التشريعات وغياب أدوات التحفيز والعقاب - وهذه مشكلة أساسية في القضايا البيئية - من التزام قادة المؤسسات بحد أدنى من السلوك الأخلاقي تجاه مجتمعاتهم. وجود القيادة الحقيقية مؤثر ومحوري لثقافة المؤسسة التي تنعكس بدورها على المجتمع. وإذا أصبحت أفعال هذه القيادة قاتمة وسوداء، فهذا ما سينعكس على المجتمع من حوله. حتى التنظيمات نفسها لا تعمل إذا افتقدت المؤسسات قادة قادرين على التعاون ويملكون حسا أخلاقياً ومجتمعياً عالياً. ومع بيروقراطية وتباطؤ الجهات المنظمة التي يفترض أن تضمن عدم وقوع هذه الممارسات، يبقى الأمل في القيادات الشابة التي يجب أن تمارس دورها المؤثر في كل المؤسسات المحلية بغض النظر عن شكلها أو حجمها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي