حضن مجاني

حين رأيت في مقطع فيديو ذلك الشاب الصغير يجوب شوارع التحلية ممسكا بلوحة كتب فوقها ''حضن مجاني''، فاتحا ذراعيه للراغبين بالحضن المجاني من المارة، فقد أدركت أن الأمر أكبر بكثير من مجرد لوحة، وهذا فعلا ما تأكدت منه فيما بعد من خلال أمرين سأفصلهما لكم!
الأمر الأول: نحن كبشر لا نستطيع أن نجزم بنية ذلك الشاب بناء على عرضه الغريب المكتوب فوق لوحته، وهل كان يقلد الغرب كما قال البعض وفي نيته سن سنة سيئة عليه إثمها وإثم من فعلها؟ أم أن نيته طيبة صافية ويهدف إلى بث الإيجابية في الآخرين من خلال الحضن البريء حسب رؤيته وتفكيره؟، الموقف يخضع لكل الاحتمالات، لكن المروع في الأمر هو طريقة تعاطي المجتمع مع ما قام به هذا الشاب، حيث قوبل فعله بهجوم شرس موغل بالعمق إلى درجة التدخل بالنوايا التي لا يطلع عليها سوى رب البشر وحده، أنا لا أؤيده على فعله ولا أدافع عنه هنا ولكني أنظر للأمر بحكمة وتروٍ وشمولية، وأرفض تماما أن يتم قذف هذا الشاب أو أي شخص آخر ما لم نستمع إليه جيدا ونتفهم رؤيته ثم بعد ذلك نبين له اعوجاج سلوكه وانحرافه عن ''المحجة البيضاء'' التي تركنا عليها حبيبنا عليه الصلاة والسلام، متى نرتقي بفكرنا ونفرق بين السلوك وصاحبه؟ ففي قضية هذا الشاب تم النيل منه ومن عرضه ومن تربية أهله أيضا وكأن جميع من يهاجمه ملائكة منزهون عن الأخطاء وأبناؤهم ''مصلين مسمين''، رغم أني واثقة أن البعض منهم قد اتخذ هذا الشاب كعملية ''إسقاط نفسي'' حتى يطهر نفسه من الإحساس بالتقصير تجاه أبنائه حين يرمي أسباب ما حدث على الغرب والمدرسة والمجتمع!
النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ حين جاءه ذلك الشاب يطلب منه الإذن بالزنا، لم يقم عليه الحد ولم ينهره، وإنما أدناه منه بالمجلس وحدثه بكل شفقة ورحمة متخذا أسلوب الحوار والإقناع لا أسلوب التهجم والقذف، حتى اقتنع هذا الشاب بفداحة ما كان يريد فعله، فأين نحن من الاقتداء بالحبيب عليه السلام أم أننا ماهرون فقط في التنظير والخطب! فاشلون في التطبيق على أرض الواقع؟!
الأمر الثاني: إن استجابة الشباب الفورية لدعوة ذلك الشاب ومبادلته الاحتضان بشكل سريع وفي بعض الأحيان قوي، يشير إلى وجود خلل يجب أن يركز عليه الدعاة والمصلحون وأطباء النفس وعلماء الاجتماع، ويبتعد عنه الغوغاء الذين ''يحوسون الدعوى'' ولا يضيفون لها شيئا، والخلل الذي أقصده هنا هو افتقاد شبابنا وخاصة صغار السن منهم والمراهقين للمشاعر الإيجابية المتمثلة في الاحتضان أو الإنصات إليهم، حين أكون في دوراتي التدريبية أطرح عادة سؤالا على الأمهات فيما إن كن يقمن باحتضان أبنائهن الذكور والإناث، فتأتي معظم الأجوبة صادمة بأنهن غالبا يتوقفن عن ذلك حين يدخل الأبناء المرحلة المتوسطة، لقد ورد أن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ استقبل بعض أصحابه واحتضنهم وعانقهم .. وقبّل ما بين عيني بعضهم، فعل ذلك مع جعفر بن أبي طالب؛ كما في المستدرك وغيره، كما فعله بأسامة بن زيد.. وأيضا مع ابنته فاطمة ـــ رضي الله عنها ــــ.
الأبناء والبنات يشتكي أغلبهم من الجفاف العاطفي والمشاعر الجياشة التي يحلمون بها من أم مشغولة عنهم بأمور سطحية من ''مسايير'' وأسواق واهتمام بالبشرة، وأب يظن أن الأبوة مجرد رقم واسم جديد في بطاقة العائلة، فهو يهدر وقته في الاستراحات مع أصحابه و''يعطيهم وجه'' أكثر من عياله، لذلك يتساءل البعض عن سر تعلق الطفل بالخادمة أو السائق وما علموا أن مجرد الإنصات هو احتضان في حد ذاته!
احتضنوا أبناءكم وبناتكم، أنصتوا إليهم، أشبعوهم عاطفيا ونفسيا، ولا تجعلوهم يحتفلون وتزغرد مشاعرهم سرورا حين يرون أحدهم يرفع لوحة تدعو للحضن المجاني!
مشاكلنا ومشاكل أجيالنا الشابة علينا أن نواجهها بحكمة وهدوء ورفق، لا بتهجم وغضب واندفاع!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي