ما المطلوب بعد حملة التصحيح؟
لا يختلف اثنان على أن الحملة التي أطلقتها وزارة العمل قبل عدة أشهر بالتعاون مع وزارة الداخلية، والتي استهدفت تصحيح أوضاع العمالة المخالفة لنظامي العمل والإقامة في المملكة، أتت أكلها وحققت الأهداف المنشودة منها.
إن النتائج المبهرة التي تحققت عن حملة التصحيح لأكبر شاهد ودليل على نجاح تلك الحملة، ولا سيما أن أعداد العمالة الوافدة غير النظامية التي تمكنت الحملة من تصحيح أوضاعها كانت في تزايد مستمر يوما عن آخر منذ أن انطلقت الحملة بعد موافقة المقام السامي ووضع التنظيمات المُتعلقة بفترة المهلة التصحيحية لمخالفي نظامي الإقامة والعمل، والتي شملت جميع المنشآت، والأفراد، والعمالة الوافدة وذلك قبل نهاية المهلة الأساسية والمهلة الثانية الممتدة حتى نهاية العام الهجري الماضي. ونتيجة لذلك فقد تجاوز أعداد العمالة التي تمكنت من تصحيح أضاعها نظامياً ومهنياً بما في ذلك العمالة التي اختارت طواعيا مغادرة المملكة لبلادها أكثر من أربعة ملايين عامل.
إن البعد الإنساني لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ــــ يحفظه الله ــــ، قد ساهم بشكل كبير في نجاح حملة التصحيح وفي تحقيقها الأهداف المرسومة لها، حيث على سبيل المثال لا الحصر، تم بأمر الملك إعفاء جميع الوافدين المخالفين لنظامي الإقامة والعمل الراغبين في تصحيح أوضاعهم والبقاء للعمل في المملكة من العقوبات والغرامات المرتبطة بمخالفاتهم باستثناء الرسوم وذلك لمن وقعت مخالفاتهم قبل تاريخ اليوم السادس من نيسان (أبريل) من العام الجاري، وفي حال المغادرة النهائية خلال الفترة التصحيحية يتم الإعفاء من رسوم الإقامة ورخصة العمل والعقوبات والغرامات المرتبطة بالمخالفات عن الفترات السابقة، وبطبيعة الحال ومن منطلق المنطق السليم، أن الحملة التصحيحية لا تشمل المتسللين الذين دخلوا المملكة بطريقة غير شرعية.
وحتى تتمكن منشآت ومؤسسات القطاع الخاص من تصحيح أوضاع العمالة الوافدة لديها بأسرع وقت ممكن خلال مهلة التصحيح، فقد مكنت وزارة العمل المنشآت والمؤسسات من تصحيح أوضاع العمالة الوافدة التي تعمل لديها ''نقل الخدمة، تغيير المهنة... إلخ'' بسهولة من خلال الخدمات الإلكترونية للوزارة.
على الرغم من التسهيلات التي منحتها الحكومة السعودية للعمالة الوافدة الراغبة في تصحيح أوضاعها سواء المرتبطة بنظام العمل أم بنظام الإقامة إلا أن تلك التسهيلات وغيرها الكثير مما لا يتسع ذكره في هذا المقام، لم تغفل وضع أحكام عامة اشتملت على عقوبات صارمة لمن يثبت مخالفته لضوابط التصحيح، مثل تشغيل ونقل وإيواء الوافد المخالف والذي قد يؤدي إلى عقوبة سجن تصل إلى فترة سنتين وعقوبات مالية أخرى قد تصل إلى 100 ألف ريال عن كل مخالفة، وتتعدد العقوبة بتعدد الأشخاص المخالفين، وتأخر الوافد المخالف عن المغادرة والذي قد يعرض لعقوبتي السجن والغرامة معاً.
إنه لمن المؤسف جداً أن تلك التسهيلات التي منحت للعمالة المخالفة لنظامي العمل والإقامة لم تستغل سواء من قبل بعض المنشآت والمؤسسات التي لديها عمالة غير نظامية أو من قبل العمالة المخالفة نفسها، ولعل ما يؤكد على ذلك الأحداث المأسوية التي حدثت في منطقة منفوحة في مدينة الرياض وتسببت في حدوث وفيات ووقوع عدد من الجرحى والمصابين، وذلك نتيجة لمقاومة مجموعة من العمالة الإثيوبية لحركة التصحيح وعدم التزامها بالقوانين المرعية في البلاد المرتبطة بقانون العمل والإقامة. كما أن ما أعلنت عنه وزارة العمل من نتائج خلال الزيارات والحملات التفتيشية الأولى والتي قامت بها في مناطق مختلفة من المملكة، والتي كشفت عن عدم التزام أكثر من 261 منشأة بمتطلبات تصحيح العمالة والاستفادة من مهلتي التصحيح، وأيضاً أكثر من 107حالات عمل لدى الغير، و154 حالة توطين وهمي، يؤكد أن بعضاً من المؤسسات والمنشآت العاملة في القطاع الخاص بما في ذلك من العمالة الوافدة نفسها لم تتعامل مع مهلتي التصحيح بالجدية المطلوبة ولم تمنحها القدر الكافي من الاهتمام الذي تستحقه رغم التسهيلات التي منحتها الحكومة السعودية للمنشآت والعمالة الوافدة المخالفة لنظامي العمل والإقامة في البلاد.
دون أدنى شك أن سكوتنا وتقاعسنا في الماضي في التعامل مع وضع العمالة المخالفة لنظامي العمل والإقامة في المملكة وعدم التعامل مع الأمر بالصرامة والحزم والجدية المطلوبة، قد أوقعنا فيما نحن فيه اليوم من مشكلات اقتصادية واجتماعية وأمنية، وخاصة أن الحملة التصحيحية قد كشفت لنا عن الوجه القبيح للعمالة غير النظامية التي قاومت بشتى الطرق والوسائل حركة التصحيح. كما أن التجارة بالتأشيرات لفترة طويلة من الزمن والتي مارسها بعض من المواطنين من ضعاف النفوس، قد أسهمت بشكل كبير في تفاقم حجم المشكلة في المملكة المرتبطة بانتشار العمالة السائبة والعمالة المخالفة لنظامي العمل والإقامة، وأسهمت أيضاً في عبث تلك العمالة بمقدرات ومكتسبات البلد الاقتصادية والتنموية.
على الرغم من ذلك فإن حزم وصرامة الجهات الحكومية المعنية بأمر تصحيح أوضاع العمالة الوافدة غير النظامية وإصرارها على مواصلة المسيرة، سيقضي ـــ بإذن الله ـــ آجلاً أم عاجلاً على انتشار ظاهرة ذلك النوع من العمالة.
حتى تنجح تلك الجهود وتتمكن من تحقيق أهدافها الوطنية السامية والنبيلة المنشودة منها، فإن الأمر يتطلب استمرارها بالزخم نفسه والوتيرة نفسها دون أي تهاون أو تراجع أو حتى تراخ، كما أن الأمر يتطلب استصدار قانون أو تشريع يتعامل مع من تسوِّل له نفسه من المواطنين المتاجرة بالتأشيرات والتي هي أساس المشكلة، وكذلك استثمار الحكومة بسخاء في توفير الحماية الحدودية اللازمة التي تربطنا بدول الجوار بهدف قفل الباب أمام المتسللين عبر تلك الحدود، بما في ذلك سن القوانين ووضع عقوبات صارمة وموجعة لمن يكتشف من المواطنين بأنه يسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تسهيل تهريب أو تسلل الوافدين للمملكة.
أخيراً وليس آخراً، فإن الأمر يتطلب الاستمرار في ربط استقدام العمالة الوافدة ومنحها تأشيرات العمل بحاجة الاقتصاد ومتطلبات التنمية في المملكة وحاجة المشاريع، وربط مغادرة العامل الوافد بانتهاء تلك المشاريع، مع ضرورة التركيز على استقدام العمالة الوافدة المهنية المحترفة التي تحدث قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وأن يطبق عليها متطلبات الفحص المهني قبل ممارستها العمل في البلاد ومنحها شهادات على ذلك، بهدف التأكد من صلاحية شهاداتها وخبراتها العملية والعلمية وأنها تتوافق مع احتياجات ومتطلبات المشاريع والمهنة القادم إليها العامل للعمل في المملكة.