الإهمال !
قديماً، كنتُ أسمعُ من والديّ اللذين لم ينالا قِسطاً وفيراً من التعليم: «أنَّ بيت المُهمل يُخربُ قبل بيت الظالم»، فلما قويت عظامي واتسع فهمي أدركتُ كم كانت تحمل تلك الكلمات من حِكَمٍ دفعتها أرحامُ التجارب على ألسنة هذين البسيطين، ليُقدما لي مجاناً درساً لا يبرح حياتي، خاصة وأنا أرى بعيني رأسي شبح الإهمال يضرب بمخالبه المسمومة في كثير من مظاهر حياتنا، في سلوكنا الخاص، وفى سلوكنا العام، في بيوتنا، وفى أعمالنا، والنتيجة كوارث لا تخفى على كل متابع أو مشاهد!.
فيا أيها المدخن لو أنك أطفأت سيجارتك بطريقة آمنة، ولم تلقها غير عابئ ولا مكترث، ما وقع ذاك الحريق الضخم الذي أتى على الأخضر واليابس، وإن كنا لا نسوغ حرقك لنفسك أيضاً، ويا أيها السائق لو أنك فحصت سيارتك بعناية قبل السفر، واحترمت قواعد المرور، ما وقع هذا الحادث المروع الذي سالت دماء ضحاياه أنهاراً على الطريق، ويا أيتها السيدة لو أنك أغلقتِ التلفاز والبوتاجاز قبل النوم لمنعتِ مصائب وأهوال.. وهكذا.
إنَّ بيوتاً كانت في بلدتنا ذاخرة بالخير، عامرة بالأموال، فلما أصاب فيروس الإهمال بناءها، ونخر لُبَّها، هوت على رؤوس سُكَّانها، وخيم الفقر على أجوائها، واستحوذ البؤس على أهلها، فتسولوا لقمة العيش بعدما كان الواحد منهم يُشعل سيجاره بورقة تحمل فئة العشرين جنيها، وقت أن كانت بيوتاً كثيرة تفتقر إلى جنيه واحد، بعدما كان الواحد منهم يلقى في صندوق قمامته ما يطعم عشرات المساكين، بعدما كان الواحد ينفق آلافاً من الجنيهات على توافه الأشياء، والآن.. فقر وفاقة وبؤس وضنك.. إنَّ من احترم نعم الله صانته، ومن ضيعها ضيعته.
صحيح إنَّ الحذر لا يمنع قدر، ولكن لكل شيء سبب، وديننا علمنا أن نأخذ بالأسباب، وأن نضع الشيء في موضعه، وألا نتواكل بل نتوكل، إذ قال معلم البشرية عليه الصلاة والسلام «اعقلها وتوكل»، وعليه فإنَّ كوارث الإهمال ليستْ قدراً حتمياً تصبه السماء فوق رؤوس البشر، بقدر ما هو عقاب لهم على تكاسلهم وإهمالهم في أداء أدوارهم المنوطة بهم، كي يبقى قانون السببية حاكماً لحركة البشر بلا محاباة ولا مجاملة، فلا يمكن أن تكون نتائج الإتقان والإحسان كنتائج الإهمال والتسيب، لأن الله ربٌ للبشر أجمعهم، فمن أحسن العمل فلن يضيع الله أجره، ومن أساء فلابد من عقابه ليعود إلى جادة الصواب.
ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأمم، فالأمم التي لا تُحسن إدارة مواردها بسوء اختيار أفراد لا علم لديهم ولا ضمير في أماكن العمل والإنتاج تدفع كل يوم الثمن باهظاً من نخاع عظامها على هيئة كوارث تأكل ملايين الدولارات وتخلف مئات القتلى وأصحاب العاهات المزمنة، في مسلسل لن تتوقف حلقاته ما دامت تلك الثلة الفاشلة قابعة على رأس عملها وتقبض من حزينة الدولة راتبها وهي تمارس أعمالاً ولكنها سلبية، كالإهمال والفوضى والتسيب!.
إنّ دولاً كثيرة لا تعرف كثيراً عن قال الله وقال رسول الله، تفوقت في كافة مجالات الحياة، لأنها - ببساطة - أتقنت صناعة الحياة، وهذا هو التطبيق الذي لا نعرف عنه شيئاً!.