أسترالي يثير الفتنة في العالم
قبل نحو 2500 عام امتثل سقراط أشهر فيلسوف عرفه التاريخ في بلاد الإغريق القديمة، لحكم المحكمة عليه بالموت بشرب السم، بتهمة إثارة الفتنة بإفساد شباب أثينا والتجديف بآلهتهم، وبما يشبه تهديد الأمن القومي اليوم، بينما كان على العكس منهم موحداً ويقوم بتعليم الشباب بلوغ الحكمة بتوسل المعرفة ومواجهة لغط "السفسطائيين" وكبحهم عن التلاعب بالألفاظ .. وقد حاول أتباعه وطلابه إنقاذه بتدبير خطة تهريبه من السجن إلا أنه عنفهم، فقد كان يعلمهم احترام القانون وحتى لو لم يكن عادلاً فهذا لا يبرر عصيانه، بل يقتضي الأمر فضح العيوب والقصور فيه والتبصير بكيفية تعديله وتقويمه.
منذ عام ونصف .. أثار مواطن أسترالي اسمه جوليان أسانج الفتنة في العالم بإقدامه على نشر مئات آلاف الوثائق السرية على موقعه ويكيليكس على شبكة الإنترنت، وهو اليوم، (2012) لاجئ منذ شهرين في السفارة الإكوادورية في لندن (عاصمة بريطانيا أم الديمقراطيات والبلد الذي يقال إنه لا يؤاخذ فيه إنسان على ما يعتقد)، لعله ينجو بنفسه من مصيدة إثارة الفتنة في إشكالية إعلامية ملتبسة بين دعوى للتحقيق معه عن اعتداء جنسي في السويد يقال إنه مفبرك وتسريب تلك الوثائق التي أحرجت الولايات المتحدة بالذات كما غيرها.. وأثار نشرها أزمة اختلط فيها السياسي بالدبلوماسي بالقانوني بالأخلاقي .. وتناطحت فيها بشكل صارخ حدود حرية التعبير بالخصوصية.
لقد حاول طلبة سقراط تهريب معلمهم من السجن، فيما قرر رئيس الإكوادور تهريب جوليان أسانج من الملاحقة (البريطانية - السويدية - الأمريكية) لسفارة بلاده ثم إرساله إليها .. ليبقى مربط الفرس في الموقفين اللذين واجههما سقراط وجوليان هو ذاته واحد . يتعلق بمعنى الحرية، مضمونها، حدودها وثمنها وإن اختلفت الحيثيات .. فمثلما كان قضاة أثينا وأعيانها وساستها آنذاك ينظرون إلى حرية التعبير عن الآراء وكشف الحقيقة على أنه عمل خطير يثير الفتنة، يتم اليوم النظر أيضاً لقضية جوليان أسانج على هذا الأساس .. وكما اعتبرت المحكمة اليونانية كلمات سقراط آنذاك اجتراء على أمن أثينا (الأمن القومي!) بإفساد الشباب والاجتراء على أرباب اليونان، اعتبرت أمريكا تسريبات ويكيليكس أيضا اجتراء على الأمن القومي الأمريكي بالاجتراء على حرمة دوائر صناعة القرار السياسي في أمريكا.
مفارقة حادة، بل نوع من الكوميديا السوداء حين تواجه الحرية في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين محنة بهذه المزاعم المراوغة متشابهة تماما مع مزاعم ما واجهته الحرية في فجرها مع سقراط قبل 2500 عام .. وقد قبل سقراط حينها الموت بالسم احتراما للقانون بعد ما كان قد هوى على المحكمة وزلزلها بكلماته التي ظلت تدوي عبر الأزمنة: (أنا أفضل منكم جميعاً، لأني أعلم أني لا أعلم، أما أنتم فتعتقدون أنكم تعلمون) .. أو .. (أنا ذبابة المدينة التي تلسع البقر لكيلا تخور) .. أو حكمته الخالدة: (اعرف نفسك) .. كلمات تركت للموت جسده وسافرت هي حية لعصرنا هذا .. أما جوليان أسانج فليس فيلسوفاً ولا معلماً كسقراط، إنما هو إعلامي منحاز للإعلام، أدانه الإنترنت وعقيدته أن ما يصل إليه من معلومات أو حقائق ويعرفه فإنه لا بد من أن يصل للآخرين ويعرفونه بلا احتراز، وهذا ما فعله وأشاعه في ويكيليكس .. إلا أن جوليان لا يريد أن يسلم نفسه للقضاء المغرض كما فعل جده سقراط .. والقانون الذي امتثل له سقراط، يريد جوليان - بعد مضي 2500 عام دفعت خلالها البشرية أثمانا باهظة للفوز بالحرية - أن يجعله متراساً، بل وسيلة للحياة وليس للموت .. وإطلالته من على شرفة سفارة الإكوادور مخاطباً الجمهور والعالم، أشبه برجع صدى كلمات سقراط، فقد تحدث عن محاربة الظلام ومن يخشون كشف الحقيقة مذكراً بأن موقعه ويكيليكس قام على نفس المبادئ الثورية والحرية التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية .. فهل سيفلح جوليان أسانج في أن ينتصر لمجد مواثيق حرية التعبير وحقوق الإنسان الفكرية ويبقيها متألقة رغم تعقيدات قضيته سياسياً وحقوقياً؟ هل تسعفه المدائح عالية الصوت في هذا العصر للحرية في المنابر والوثائق والمؤسسات لتحقيق ذلك؟!
لقد ترك سقراط حكم محكمته عليه بالموت لمحكمة التاريخ التي وصمتها باعتبارها باطل أباطيل، فما عساها تقوله محكمة العدل الدولية بشأن جوليان؟ هل تفلح في أن تتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قضيته بحيث لا تصبح دعوى الجنحة الأخلاقية الخاصة مطية لإهدار دم حرية التعبير؟ وبالتالي هل ينجح هذا الأسترالي جوليان أسانج الذي أثار الفتنة في العالم في فك اشتباك الخاص بالعام بشأن الحرية وتخليص نفسه وضرب أمثولة جديدة باسمه كما فعل جده سقراط؟!