العوائد غير المرئية للتعليم العالي للفتاة السعودية

اعتمدت حكومة المملكة مبالغ كبيرة في ميزانيات العديد من السنوات المتتابعة، بما في ذلك ميزانية العام المالي الحالي 1432/1433هـ، وبذلت مجهودات عظيمة على التعليم العالي عموما وعلى التعليم العالي للفتاة السعودية على وجه الخصوص. وتظهر بيانات مركز التعليم العالي والكتب الإحصائية من وزارة التعليم العالي أن الفتيات يمثلن أكثر من 56 في المائة من طلبة التعليم الجامعي ونحو ربع الطلبة المبتعثين للدراسة في الخارج.
انتشر التعليم العالي منذ افتتاح أول كلية للمعلمات في الرياض، أي خلال الأربعين سنة الماضية، وتزايد كميا في عدد الكليات الحاضنة وعدد الدراسات بتسارع رأسي واضح للعيان. وسبقت كليات التعليم العالي للفتاة الانتشار في المدن والمحافظات كثير من كليات البنين، بل إن نواة كثير من الجامعات الناشئة وبدايتها في كثير من المحافظات هي كليات المعلمات وكليات التربية للأقسام العلمية أو كليات التربية للأقسام الأدبية وكليات المجتمع للطالبات. وتمثل الطالبات في بعض الجامعات السعودية الأغلبية من الدارسين فيها، ولسنا بصدد الاستشهاد بالأرقام لمحدودية المجال.
كان المبرر الوحيد في بداية تعليم الفتاة في المملكة حسبما تشير إليه وثيقة سياسة التعليم التعرف على أمور دينها وأن تكون تنشئتها على بيئة إسلامية صحيحة، وهذا أمر محمود وندعو لمن قاموا عليه بالأجر والثواب. ومر تعليم الفتاة بما في ذلك التعليم العالي من خلال مراحل تطورت فيها المناهج وتوسع الانتشار الجغرافي للمدارس والكليات وتعددت مجالات التخصص لتشمل أغلبية التخصصات التي تقدمها الجامعات.
يطرح بعض المعنيين بالتعليم العالي وبعض المثقفين الرأي بأنه نظرا لمحدودية الوظائف في القطاعين العام والخاص ولعدم تناسب أو مواءمة هذه الشواغر إن وجدت مع التخصصات الدراسية التي تقدمها الجامعات، وربما لعزوف بعض خريجات التعليم العالي عن العمل لأسباب متعددة ولقلة الطالبات اللاتي يواصلن تعليمهن العالي مقارنة بأعداد الطلاب، فربما يستدعي ذلك إعادة النظر في مسار التعليم العالي للفتاة. ويورد البعض من واقع حالات فردية، خاصة أن ما تصرفه الدولة في التعليم العالي للفتاة غير مجد اقتصاديا وربما إهدار للمال العام. ويرى البعض، أنه لا جدوى ولا مبرر من ابتعاث الطالبات للخارج مهما توافرت لهن من بيئات جيدة بوجود المحرم أو جزء من الأسرة أحيانا ويحثون على الاكتفاء على الأقل بتعليمهن داخل المملكة وعلى الحد من التخصصات اللاتي يدرسنها أو مستوى الدرجات الأكاديمية اللاتي يطمحن للحصول عليها. ومما يطرحه بعض الناس أنه ما زالت أغلبية الطالبات يدرسن التخصصات النظرية والإنسانية والأدبية التي لا تتناسب وسوق العمل ما ينتج عن زيادة ملحوظة في أعداد الطالبات في الجامعات بشكل لا يتناسب مع الزيادة البطيئة في عدد الوظائف والأعمال المتاحة لهن في القطاع الخاص، وهو المستوعب الأكبر في المستقبل لخريجي التعليم العالي. أشارت نتائج دراسة، نشرت أخيرا، قامت بها الدكتورة ليلك الصفدي والأستاذة رنا أبو نفيسة حول واقع عمل المرأة السعودية في سوق الاتصالات وتقنية المعلومات في السعودية، إلى أن 46 في المائة من خريجات الحاسب الآلي لا يعملن وأن السبب الرئيسي عائد للفتيات أنفسهن لعدم الرغبة في العمل ولأسباب متعددة، على الرغم من أن تقنية المعلومات تصنف من أفضل التخصصات الملائمة لطبيعة المرأة. ربما اختارت هذه النسبة الكبيرة المكوث بلا عمل بسبب عدم توافر بيئات مناسبة أو تحقق بعض الشروط بخصوص الوظائف المعروضة لهن. مما تجدر الإشارة إليه التعليقات على نتائج البحث يؤيد عدد من الناس مكوث الفتيات في المنازل حيث إن المرأة مكانها الطبيعي في متابعة أمور المنزل وتربية الأبناء والإشراف على المطبخ أو إعداد الوجبات لساكنيه، وهذا أمر مهم ويجب ألا يتعارض مع التأهيل العلمي أو العمل. لكن ما لم يكن متوقعا هو أنه طالما الكثير من الفتيات سيبقين بلا عمل بمحض إرادتهن، فإنه لا يوجد أي داع لبذل الجهود المضاعفة وصرف الأموال الطائلة على دراستهن في تخصصات لا فائدة منها ولا عائد اجتماعيا أو اقتصاديا منها.
ينسى البعض أن التعليم الجامعي والعالي يهدف، وفي كل دول العالم المتقدم، إلى بناء المهارات الشخصية والإمكانات الفردية والعمل الجماعي والقيادة المنظمة والبحث العلمي والتفكير المنطقي والاستنتاج السليم والطموح المشروع والتنافس الشريف والعدالة والصدق والأخلاق. وتشير الكثير من الدراسات إلى أن خريج الجامعة وفي أي تخصص تقريبا لا يستخدم من المعلومات إلا القليل، بل لا يستخدم معظم خريجي التخصصات الهندسية في الولايات المتحدة 25 في المائة من المعلومات التحصيلية التي درسوها على مقاعد الجامعات.
كل المتخصصين في دراسات التعليم العالي يؤكدون جدواه الاقتصادية ويربطون الإنفاق على التعليم العالي بالازدهار الاقتصادي، وتوضح كثير من مطبوعات منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن للتعليم العالي كذلك مردودا يصعب قياسه بدقة مثل الصحة، حيث تشير دراسة إلى أن متوسط عمر من درس بعد الثانوية أكثر ممن لم يتجاوز تعليمه المرحلة الثانوية ويتضح في الأغلب أن المستوى الاقتصادي والاجتماعي لمن تخرج في الجامعة يكون في أكثر الأحيان، أفضل ممن لم يتمكن من التعليم الجامعي. وللتعليم عوائد عديدة ومتنوعة غير مرئية وأخرى غير مقاسة نوعيا وغير محسوبة كميا.
عدم توافر العمل في مرحلة من مراحل الدورات الاقتصادية، وفي أي دولة، للطلاب عموما وللطالبات، خصوصا لا تبرر الحد من التعليم الجامعي الذي أصبح من ضروريات الحياة وله عوائد على الفرد والمجتمع والوطن والمنطقة. من الصعب التشكيك في أثر الأم المربية في زوجها وأبنائها أو الفتاة في بيت أبيها أو في مجتمعها والذي يتسم بثقافتها وبالمهارات التي اكتسبتها وبالكميات التي تعلمتها واتساع الأفق وبعد الرؤية في بناء البيئة التي حولها وغرس الطموح في أهمية التعليم الجامعي لكل المحيطين بها.
يزود التعليم العالي الفتاة بصفات عديدة وتتعلم الفتاة مهارات مختلفة تجعلها قادرة على اتخاذ القرارات وتربية أبنائها والاهتمام بأسرهن ومواكبة التطور واستخدام التقنية. كثير من التخصصات العلمية تتطلب لغة أجنبية، وهذا مكسب يوفر لها نافذة على أنشطة وأفكار معظم سكان الكرة الأرضية. يتميز من في التعليم العالي بإدراك أوسع للمتغيرات تجعلهم يفهمون المتغيرات ويدركون أثر السياسات لتكون خياراتهم واستثماراتهم ورؤاهم إيجابية فتنعكس على أدائهم الشخصي وعلى إنتاجيتهم نوعا وكما، وبالتالي على مجتمعهم ووطنهم. يقر الجميع وعبر مراحل التاريخ المختلفة أن المرأة هي المربي الحقيقي للأجيال، وهي المدرسة لإعداد شعوبا طيبة الأعراق، كما قال الشاعر، وهي جامعة بمعنى الجمع والتعليم لكل فضيلة كما قال آخر. وبالتالي فالمهارات والكفايات والعلوم التي تكتسبها الفتاة تعود على المجتمع سواء في مجال العمل لمجتمعها أو في البيت لأسرتها ولكل المحيطين بها ـ وبغض النظر عن طبيعة التأهيل الجامعي معلمة كانت أو متخصصة في الحاسب الآلي أو طبيبة كانت أو ممرضة أو مهندسة أو مجيدة للغة أجنبية.
انشغال الأب أو الزوج أو الأخ أو تشاغله أحيانا حتى لو كان موظفا صغيرا أو كبيرا أو رجل أعمال أو كان عاطلا أحيانا أو متقاعدا ونادرا ما نستثني مجتمعا من ذلك، يجعل المرأة أقرب لأبنائها وأطول بقاء معهم في أغلب مراحل تكويناتهم. فمن البديهي أن تكون الأم هي التي تعتني بأطفالها وأقدر على غرس المبادئ الدينية والحياتية والمثل، وهي التي تقوم بتربيتهم وتعليمهم في المنزل. وبالتالي فإذا كانت الأم أو الأخت أو الابنة أو الزوجة ذات تعليم ذي مستوى عال ستكون قادرة على إيجاد الطرق المناسبة في التعامل مع أطفالها وغرس الصفات فيهم مع اختلاف شخصياتهم. وستكون قادرة على دعمهم في مراحل التعليم المختلفة. ومن الواضح أن بناء الأسرة بناء للمجتمع، وتربية الأبناء تأسيس للمجتمع، والاستثمار البشري في الوطن يبدأ بالفرد، والفتاة في المملكة أولى بهذا الاستثمار لتحسن جدواه الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي