يارب .. كفى دكتوراه أيضا!
ما كنت أحسب كاتبا قديراً وأكاديمياً كالدكتور سعيد العضاضي يستفز من مقالتي التي نشرت هنا يوم الثلاثاء الماضي بعنوان: ''يا رب.. كفى دكتوراه''، فقد كان واضحا أنني قصدت ''خشاش الدكتوراه'' وليس الدكتوراه القيمة التي نصر على المزيد منها.. لكن الزميل العزيز في مقالته (ماذا تعني لك الدكتوراه؟) المنشورة يوم الجمعة الماضي في هذه الجريدة بدا لي ممزقاً بين الغيرة على مكانة الأستاذ الجامعي وبين الدفاع غير المباشر عن الذات، ولذلك ساق مرافعته على هذا الأساس.. ولأني أرجو أن أنجو من (تسطيح الأمر بهذا الشكل والنظر إليه بهذا الضيق) أود توضيح التالي:
أولا: أوافقك أن حامل الدكتوراه ليس بالضرورة أن يكون كاتباً أو خطيباً مفوهاً أو ملماً بكل شاردة وواردة، ولم أقل قط ما يوحي بعكس ذلك.. وكوني ضربت مثلاً بـالكَتبَة (الداليين) ــــ وليس الكتاب ــــ فلأنهم يمثلون الجزء الطافي من جيل الخشاش، لكن الذي لا أحد يوافق عليه هو ألا يكون الأكاديمي قادراً على الكتابة ولا عارفاً بالنحو والإملاء، خصوصاً في (العلوم النظرية)، وما لجوء أصحاب الرسائل إلى المصحح إلا دليل قوي على ذلك، لأن روح البحث أو الدراسة هو النص أو متنه، وإذا لم يكن النص مصوغا في سياق بنيته اللغوية الصحيحة بنسق ووضوح منهجي وبتراتب منطقي تجعل جمله وحججه في مواقعها، فمن المؤكد أن المشرف على الرسالة قبل المناقشين لن ينظروا إليها.. وليس مطلوبا أن يكون الأكاديمي سيبويه أو الفراء، إنما ألا تنقلب (لكن) إلى (لا كن) أو ينصب الفاعل ويرفع المفعول أو لا يتم التمييز بين حروف الجر والنصب والجزم، وحتماً ليس مطلوباً أن تكون الرسالة قطعة أدبية آية في البلاغة، وإذا بات شائعا اللجوء إلى المصحح، لضعف في العملية التعليمية بالأساس فهذا دليل ناصع على أن النحو والإملاء والصياغة شروط صارمة ملزمة، لا تقبل رسالة دون تحققها فيها، غير أن المشرف والمناقشين ليس من شأنهم التثبت إذا ما كان صاحب الرسالة هو مَن فعل ذلك أو غيره .. سواء في اللغة العربية أو السنسكريتية!!
ثانيا: ما قصرت حديثي على أساتذة الجامعات، لكن القول: إن كثيراً من حملة الدكتوراه تعبوا وأجهدوا أنفسهم في الغربة وفاتتهم الفرص وابتعدوا عن البحث والدراسة وضعفت صلتهم حتى بالقراءة التقليدية، لأنهم انشغلوا بأعمال بعيدة عن مجالهم الأكاديمي، قول ضد الأكاديمي نفسه وليس معه، لأنه هو مَن قرر تجفيف منابع تطوره، أما الإشارة إلى أن البحث العلمي يحتاج إلى دعم وتفرغ، (وهذا مما لا خلاف عليه)، فإن عدم توافر ذلك للعلوم النظرية لن يفسر هذا الانسداد الفاضح لشهية البحث والدراسة النظرية التي لا تحتاج إلى معامل ومختبرات ومراكز تقنية وأدوات علمية للقياس والتجارب، كما هو الحال في العلوم التطبيقية، فالعلوم النظرية تتطلب بالدرجة الأولى همة واستعداداً للانكباب على البحث والدراسة، فالمكتبات ومصادر المعلومات متوافرة، خصوصاً مع الانفجار الهائل لتقنية المعلومات. ودعنا من حكاية التفرغ هذه، فلا أظن أخي العضاضي يجهل كم ذهب من دكتور في سنة تفرغ وعاد للجامعة بـ ''حشف وسوء كيلة''، كما لا أظنه يخفى عليه عصاميون بعضهم ممن لا يحملون الدكتوراه قدَّموا دراسات رصينة بكدحهم الخاص، ومع ذلك فدلني أيها العزيز على كتب (لافتة) في الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس .. إلخ مؤلفة أو حتى مترجمة – إلا القليل – فنحن نعيش على موائد أشقائنا العرب، وبالتالي ليس من الحصافة التهويل بمشجبَيْ الدعم والتفرغ فلن يحول مديرو الجامعات السعودية ولا مديرو جامعات جزر الواق واق ولا وزارة التعليم العالي هنا أو في أي مكان دون أن يحقق باحث رغبته، بل أجزم أن الجميع سيضربون له ''تعظيم سلام'' لو فعل!!
ثالثا: أما رفضك التشكيك في قدرات حملة الدكتوراه في جامعاتنا فبودي أن أشاركك هذا الرفض على إطلاقه، لولا أنك تعرف كما يعرف غيرنا فيضاً ممن يجوسون في ديارنا اُبتليت بهم (بعض) جامعاتنا أو كانت هي سبب في ابتلاء بلادنا بهم بالفزعة لهم بدكتوراه تغرف من الكتب الصفراء مما لم يعد من بضاعة هذا العصر، بل لفظ أنفاسه منذ قرون، إلى جانب جماعات دكتوراه الصيف والدكاكين وغيرهم، ممن يصر واحدهم حين يتصل على مطعم أو فوال أو سنترال، أو يسأله أحد عن اسمه على القول (معك الدكتور ...) فهل هناك أكثر خفة وإعاقة من ذلك للثقافة والوعي والمستوى الأكاديمي الذي ما زالت جامعاتنا في (حيص بيص) تصنيفاته المخجلة، وبما يقطع بسيادة (خشاش الدكتوراه) على المحترم منها.. أرأيت أيها العزيز إلى أي منقلب نحن منقلبون؟!