اُبْذُرُوا القمح فوق رؤوس الجبال

''ابذروا القمح فوق رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين''، عبارة لا بد أن يخلدها التاريخ، ولا بد أن تُكتب بماء الذهب، وتجعل ضمن الدستور العالمي لحقوق الحيوان، عبارة قالها عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - والملقب بالخليفة الخامس، والمعروف بالعدل والقسط، كانت الزكاة في وقته يدار بها في الشوارع والأسواق ولا يوجد من يأخذها؛ نظرًا لاكتفاء المسلمين، وانتشار الخير في زمنه.
قال هذه العبارة إحساسًا منه بالمسؤولية، وهو ولي أمر المسلمين ليس تجاه الناس، بل تجاه الحيوانات والطيور، إذ لا يقر له قرار حتى لا يكون في حدود دولته الإسلامية إنسان جائع، بل حيوان وطائر، لذا أمر بنثر القمح على قمم الجبال إمعانًا منه في بذل الجهد للوصول إلى الكبد الرطبة المستحقة للإشفاق عليها، بل الإنفاق عليها من بيت مال المسلمين. ليس بغريب على عمر بن عبد العزيز هذه المقولة، وهذا التصرف، إذ سبقه جده لأمه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – حين حرم على نفسه لذة العيش حتى من الكفاف، وكان يخاطب معدته بقوله اصفري وقرقري حتى يأكل آخر رجل من المسلمين، إذ حرم نفسه من الأكل ليشعر بأوضاع رعيته، وليحس بما يحس به جائعهم، ويكون في وضعه استشعارًا منه بعظم المسؤولية التي يتحملها، وهو أمير المؤمنين المعني بشؤونهم، والملزم بالقيام بواجباته نحوهم. وإذا كان عمر في سيرته قد أثبت حرصه على الرعية من بني البشر، وكما روت لنا السير من أنه يدور في المدينة يتلمس حاجات الناس، فهذا عمر نفسه يهتم بالحيوان، حيث قال مقولته المشهورة، والله لو عثرت دابة في العراق لخشيت أن أحاسب عليها يوم القيامة.
تأملت في هذه السير للعمرين، وفي هاتين المقولتين فألفيت أن الأمر يحتاج لوقفة متأنية نقارن فيها بين ماض ولى برجالاته وقادته العظام، وبين حاضر يحتاج لاستبصار وتأمل وتحليل؛ لمعرفة أسباب التردي والتراجع الذي أصاب الأمة في واقعها. لقد رزئت الأمة، ومرت عليها الكثير من النكبات، فما إن تخرج من مأساة حتى تدخل مأساة أخرى أكبر وأفظع منها، من حروب إلى مجاعات إلى أمراض، إلى كوارث طبيعية تفعل فعلها في المسلمين حتى أصبحت أخبار المسلمين السيئة تتصدر نشرات الأخبار العالمية.
تداعت إلى ذهني صور الماضي المشرق الذي كانت فيه الأمة الإسلامية رائدة ليس في داخل حدودها، بل خارجها، حين نشرت دينها وثقافتها وقيمها الرائدة على شعوب الأرض، وأعطتهم دروسًا في التراحم بين أبناء المجتمع، هذه الصور تداعت والعالم يتابع مأساة ما يقارب من مليوني صومالي يتعرضون لمجاعة قاسية أهلكت مواشيهم، بل مات البشر جراء هذا القحط الذي اضطر الجموع البشرية لقطع المسافات هائمة على وجوهها لا تدري أين تتجه بحثًا عن طعام لهم ولأطفالهم الذين إلى جانب الجوع يعانون الأمراض التي قضت على الكثير منهم، ولا يزالون مهددين بهذا المصير الذي لا يعلم نهايته إلا الله.
الصوماليون الذين يتحاربون منذ ما يقارب 20 عامًا تقع عليهم مسؤولية كبرى إزاء أنفسهم ومجتمعهم، فما يصرف على السلاح يمكن أن يكفي المجتمع بكامله بدلاً من الاستمرار في هذه المأساة التي لا أحد يتنبأ بنهايتها المدمرة، كما أن الأمة الإسلامية من جانب آخر مسؤولة هي أيضًا عن الوقوف مع إخوانهم الذين ضرب الجفاف والقحط ديارهم، وأدخلهم في دائرة الفقر، بل مرحلة الجوع بعد أن كانوا مكتفين بما لديهم.
التحرك العالمي والإسلامي جاء متأخرًا، وبعدما أنهك الجوع جموع الصوماليين خاصة في جنوبه، وكان بالإمكان تدارك ذلك لو أن لدينا حسًا كذلك الحس الذي كان لدى عمر بن الخطاب وحفيده عمر بن عبد العزيز، لكن يبدو أن حاسة الاستجابة لدينا بطيئة لدرجة يترتب عليها الكثير من المآسي. العالم أجمع معنيٌّ ومسؤول عن هذه المأساة، لكن المسؤولية الكبرى تقع علينا نحن المسلمين الذين تربطنا بهؤلاء رابطة العقيدة. لقد تنبأت هيئات ومنظمات إنسانية بالكارثة قبل فترة طويلة، ولعلي أذكر على سبيل المثال الندوة العالمية للشباب الإسلامي، حيث نبهت لخطر المجاعة الناجمة عن القحط قبل سنتين، ولكن لم يستمع لهذا التنبيه أحد، ولذا لا بد من البحث عن الأسباب لتأخر الاستجابة، هل هو موت الإحساس لدى المسلمين أعني عموم المسلمين لا أعتقد شخصيًا، وكما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ''الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة''، وفي ظني أن السبب مرده عدم وجود عمل مؤسسي منظم يكتشف المشكلة قبل وقوعها، ويعمل على تفاديها من الأساس، أو التقليل من آثارها على أقل تقدير. ففي المأساة الصومالية أعتقد أن المسألة يمكن التقليل من آثارها السلبية لو تم حفر آبار في الأماكن المعرضة للجفاف والقحط، كما أن العمل على توعية، وتدريب قاطني تلك المناطق على فنون الزراعة بدلاً من الاعتماد الكلي على الرعي، والماشية قد يكون سببًا آخر من أسباب حصر المأساة والتقليل من آثارها.
في هذه الأيام الجليلة حيث تمتد أيدي الخير إلى كل مكان في العالم نجد أيدي الأسد تمتد لتقتل الأطفال والشيوخ والنساء، وتدمر بيوتهم وأملاكهم بالدبابات، والمدافع والطائرات والبوارج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي