ثقافة العمل وأخلاقياته (1)

يؤثّر العمل، بلا أدنى شك، في اقتصاديات المجتمعات، كما يؤثِّر كذلك في البيئة الاجتماعية، حيث يطاولها تحسينا شاملا ومناسبا لأفراد المجتمع، تحقّق مستويات عالية من القبول، والرضا، وتوفر لهم أجواء معيشية هانئة وكريمة، فضلا عن فتحه مجال الإبداع والإسهام في بناء المجتمع على مصراعيه، ومن ثمّ الشعور بالانتماء إلى مجتمع يعمل وينتج ويتطور.
وتوضح الفروق الواضحة والبارزة بين الدول المتقدّمة والدول النامية، توضح كفاية وقدرة القوى العاملة في المجتمع التي تعكس بشكل مباشر ثقافة العمل في المجتمع ومدى التطور الذي وصل إليه.
استخلف الله، عزّ وجلّ، الإنسان على الأرض من أجل إعمارها‏؛ ومن الطبيعي أن يكون العمل، أهم تحدٍ في حياة الإنسانية على سطح المعمورة،‏ وسيظل كذلك حتى يرث الله الأرض‏، ومَنْ عليها‏.‏ ولما كانت حركة هذه الحياة هي إعلان عن وجود الإنسان فيها‏، وفي الوقت نفسه، انعكاس لحركة جسده، بما يحتويه من أجهزة حيوية‏، وأعضاء وخلايا داخلية‏، فإن دينامكية هذه الحركة، تعد بمثابة المعنى الحقيقي للحياة‏، وللوجود على المستويات‏ كافة.‏
لذلك تأتي فلسفة العمل في المرتبة الأولى من الإيمان‏، واليقين التام بأهميته في إعلان الهوية الإنسانية‏، وفي تأكيد الكيان والوجود‏، كذلك في إثبات حق الإنسان في إعمار الأرض‏، ومسؤوليته عن ذلك‏، وهذا ما أقرته الأديان السماوية‏.. ولأن العمل عبادة؛ فقد خوّله ذلك حمل أمانة وجوده البشري على الأرض، كما يعني وفاءً بمسؤوليته التي فرضها الخالق، جلّ وعلا، على عباده؛ حيث إن مَنْ يؤدّي العمل يؤدي الأمانة فهو، في الوقت نفسه، يتواصل دائما وأبدا مع الله سبحانه جلّ شأنه.
وتعني فلسفة العمل، فضلا عن كونه عبادة، نمط حياة لا يفرّق بين دين، أو مذهب أو وطن أو عرق وأنه يمتد مع عمر الإنسان أينما كان‏، وصدق الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: ''إِِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْها''، حيث يعلّمنا - صلى الله عليه وسلم - دروسا عظيمة من أعظمها الإيجابية في حياة الإنسان؛ إذ لا بد أن يكون إيجابيا، يشارك في هذه الحياة بكل ما يستطيع، وبقدر ما يمكنه، ولو كان ذلك في آخر لحظات الحياة؛ والعمل هو الرباط الجوهري بين الإنسان‏، وأخيه الإنسان وهو اللغة المشتركة الجماعية التي تجمع الإنسانية في نسيج متناسق يتحقق من خلاله تبادل الحاجات وتداول المنفعة‏، وإصلاح حال الحياة بوجه عام‏، والعمل إعلان عن الذات وتحريك للطاقة‏، أنا أعمل إذن أنا موجود وهو تجديد لنمط الحياة من أجل كسر الجمود والحد من الكسل والركود‏.‏
وما يضمن النجاح في هذا السبيل، تغيير ذهنية المجتمع وأفراده، وتصحيح ثقافة السلوك إلى العمل‏، التي تعتمد على الإيمان بقيمته للفرد‏ ذاته، ولمن حوله من الناس‏، وعلى حسن اختيار نوع العمل بما يتفق مع القدرات والمهارات الذاتية‏، وتوظيف هذه القدرات وهذه المهارات، لتقديم أفضل الأداء لهذا العمل؛‏ جنبا إلى جنب مع وضعه في إطار يسمح بالتواصل مع عمل الآخرين لكي يتحقق روح الفريق والعمل الجماعي‏، وأخيرا عدم ربطه (العمل) بالمردود أو العائد أو المنفعة المادية المباشرة من ورائه بصورة حسابية مطلقة‏، وإنما النظر إلى العائد الآجل‏، وليس السريع‏، والنظر إلى المنفعة العامة وليس فقط المنفعة الخاصة‏.‏
والعمل فيه راحة للنفس إذا كان القصد من ورائه هو نشر الخير والنفع بين الناس وإذا كانت عناصره هي مراعاة الضمير‏، وحسن الإتقان والأداء واتباع ضوابطه الأخلاقية‏.‏
إن دين العمل هو أن يكون ابتغاء لمرضاة الله‏، وروح العمل هو السعي في إطار الجماعة‏، والتوحد مع الفريق‏، وإيجاد العمل هو الإتقان من أجل نشر الخير والنفع للناس‏.‏
ما أحوجنا الآن إلى نشر مفهوم ثقافة العمل في بلادنا‏، وجميع الجوانب المؤثّرة والمتأثّرة بالعمل، وبمن يستفيد من العمل سواء كان موظفا أم عاملا أم صاحب عمل، أم متلقيا للخدمة أم المجتمع ككيان واحد له صيغة اقتصادية وإعلامية واجتماعية وسياسية، وتشمل ثقافة العمل عددا من المجالات التي تتأثّر بمستوى ثقافة العمل، حيث يمكن تلخيصها في إجراءات العمل؛ وتطوير الذات؛ وبناء الأنظمة.
وما أحوجنا كذلك إلى إعلاء قيمة العمل وإلى تطبيق شعار الأمل مع العمل، وذلك بعد أن تبين يقينا بأن تقدم وتطور الشعوب من حولنا لم يأت اعتباطا‏، ولكن بالعمل الدؤوب المدروس‏، وأن نهضة الأمم تتحقق بالعمل بروح الفريق والتخلي عن الذاتية والأنانية الفردية‏، وأن الولاء للخالق وللوطن يعني التفاني في أداء واجب العمل وليس في الاستكانة والتقاعس والإهمال والتواكل والتبعية‏..!‏
وبعث ثقافة العمل في مجتمعاتنا، تستدعي بث روح العمل وقيمته في نفوس أطفالنا ونشأنا وشبابنا بنشر ثقافته‏، وبإظهار القدوة أمامهم من أجل ضمان تقديرهم‏، وتدريبهم علي العمل منذ الصغر‏، وكذا التأكيد على سياسة الثواب والعقاب في مجالات العمل المختلفة لضمان الجدية في التنفيذ‏، جنبا إلى جنب مع تشجيع العمل الخلاق وتفجير الطاقات الإبداعية من داخل الأفراد‏، وعدم الاعتماد على مجرد الأداء التقليدي الرتيب للعمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي