هل بالفعل سيرفع الذكاء الاصطناعي الإنتاجية فوراً؟

التاريخ يظهر أن التحوّلات التقنية الكبرى غالباً ما تترافق مع تعقيدات تؤخّر جني ثمارها

التجارب أثبتت أن الحماسة المفرطة تجاه الحاسوب في الستينيات كانت متعجلة


ينبغي أن يحذر المتحمسون للذكاء الاصطناعي لأن التوقعات بأن هذه التقنية سترتقي فجأة بالإنتاجية تُذكّرنا بوعود مشابهة تلت إدخال الحواسيب إلى بيئة العمل. حينذاك، قيل إن هذه الآلات الجديدة العجيبة ستؤتمت وظائف مكتبية شاسعة، وتقود العالم نحو اقتصاد رقمي رشيق.

تعود تلك النغمة بعد مضي ستة عقود. مع إطلاق "تشات جي بي تي" في 2022، قال باحثون في معهد ماساتشوستس للتقنية إن الموظفين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي سيصبحون أكثر إنتاجية بنسبة 40% مقارنة بمن سواهم.

لكن هذه المزاعم قد لا تصمد طويلاً، تماماً كما لم تصمد التوقعات الحالمة في ستينيات القرن الماضي. فقد أظهرت دراسة معمّقة نشرها "المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية" في مايو أن إسهام الذكاء الاصطناعي في توفير الوقت لم يتعد 3%. وكشفت دراسات أخرى أن الاعتماد عليه في المهام الذهنية المتقدّمة قد يؤدي إلى تراجع تحفيز الموظفين ويعيق عملهم.


الحواسيب لم تحسّن الإنتاجية في البداية


نشهد اليوم فصلاً جديداً من "مفارقة الإنتاجية"، وهو المصطلح الذي صيغ لوصف الركود غير المتوقع في الإنتاجية، بل حتى تراجعها أحياناً، خلال العقود الأربعة الأولى من عصر المعلومات. الجانب المشرق أن التجربة السابقة قد تساعدنا اليوم كي نحسن إدارة توقعاتنا.

منذ ستينيات القرن الماضي، أسهمت ابتكارات مثل الترانزستور والدوائر المتكاملة ورقائق الذاكرة والمعالجات الدقيقة في إحداث قفزات نوعية في تقنية المعلومات، إذ تضاعفت قدرة الحواسيب بشكل منتظم كل عامين تقريباً بلا زيادة تُذكر في التكاليف.

في 1964، وصفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الحواسيب بأنهم "سحرة إلكترونيون" تولّت تنفيذ "عدد كبير من المهام" داخل المكاتب "بسرعة تفوق ما يمكن أن ينجزه جيش من الموظفين الإداريين وبتكلفة أقل". لاحقاً في العام نفسه، أفادت الصحيفة بأن انتشار الحواسيب أدى إلى "تباطؤ حاد في توظيف الموظفين الإداريين".

سادت سريعاً قناعة راسخة بأن الحواسيب ستمهّد الطريق لأتمتة واسعة النطاق وبطالة بنيوية. إذ بات في وسع موظف واحد، مزوّد بجهاز كمبيوتر، إنجاز مهام كانت تتطلب مئات العاملين. على مدى العقود الثلاثة التالية، تبنّى قطاع الخدمات الحوسبة باندفاع كامل.

لكن لم تتحقق المكاسب الموعودة. بل أظهرت دراسات في أواخر الثمانينيات أن قطاع الخدمات الذي وصفه الاقتصادي ستيفن روتش بأنه "الأكثر امتلاكاً لرأس مال تقني متقدّم"، كان في الواقع من أضعف القطاعات أداءً على صعيد الإنتاجية خلال تلك المرحلة.

وفي تعليق ساخر شهير، قال الاقتصادي روبرت سولو: "نرى الحواسيب في كل مكان... باستثناء إحصاءات الإنتاجية".


الكهرباء أيضاً أدت إلى نتيجة مشابهة


طرح الاقتصاديون تفسيرات عدة لهذا اللغز الذي عٌرف باسم "مفارقة سولو". ولعلّ أضعف تلك التفسيرات، وإن ظل حاضراً حتى اليوم، هو الزعم بأن ما حدث ليس أكثر من وهم ناجم عن قصور في القياس، وأن آثار الأتمتة الواسعة ببساطة لم تظهر في البيانات الاقتصادية.

في المقابل، عزا بعضهم فشل استثمارات تقنية المعلومات في تحقيق الإنجازات الموعودة، إلى المديرين. وفي هذا الرأي شيء من الصواب، إذ تُظهر دراسات حول تبني تقنية المعلومات أن مسؤولي الشركات أنفقوا بسخاء على تجهيزات تقنية جديدة، مع توظيف كوادر تتقاضى أجوراً عالية لصيانة هذه الأنظمة وتحديثها باستمرار. وبدلاً من تقليص عدد الموظفين، أدّت الحواسيب إلى تضخم في قوة العمل.

لكن التفسير الأكثر إقناعاً جاء من الاقتصادي بول إيه. ديفيد، الذي قدّم ما يُسمى "فرضية التأخّر الزمني". بحسب رأيه، فإن التحوّلات التقنية تثير نزاعات ضارية ومعارك تنظيمية ومنافسات على الحصص السوقية. في غضون ذلك، تستمر النظم القديمة في التعايش مع الجديدة، رغم أن جزءاً كبيراً من العالم يُعاد تشكيله ليتلاءم مع التقنية الجديدة. ولا يظهر أي من ذلك في شكل مكاسب إنتاجية فورية، بل العكس صحيح.

استشهد ديفيد في دعمه لفرضية "التأخر الزمني" بمرحلة دخول الكهرباء إلى قطاع الصناعة، باعتبارها مصدر طاقة أسرع وأكثر كفاءة من البخار الذي كان مصدر الطاقة السائد. لكن رغم هذا التقدّم، استغرق الأمر نحو 40 عاماً حتى تُترجم الكهرباء إلى زيادة فعلية في إنتاجية العمال، وسط صراعات على المعايير الصناعية واندماجات متلاحقة ومعارك تنظيمية وحاجة لإعادة تصميم كل مصنع من الصفر. كانت عملية بطيئة ومكلفة وفوضوية.


استبعاد تحسن فوري بالإنتاجية


لقد تكررت التجربة مع الحواسيب. في 1966، وبعد عامين فقط منذ احتفت صحيفة "وول ستريت جورنال" بالحواسيب، عادت ونشرت تقريراً أشارت في إلى أن هذه الأجهزة ذات القدرات الهائلة في تخزين البيانات واسترجاعها، بدأت تُغرق المديرين التنفيذيين بتقارير مفرطة التفاصيل. وقدّرت الصحيفة حينها أن "نحو 25 ألف كمبيوتر في البلاد تنتج يومياً ما يعادل 7300 ميل من الورق"، ما يظهر، بمصطلحات اليوم، حالة إغراق معلوماتي لدى الشركات.

لم تختفِ هذه الشكاوى، لكن في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأ أخيراً التحسن الملحوظ في إنتاجية الاقتصاد الأمريكي. وعزا بعض الاقتصاديين السبب إلى التبني الواسع لتقنية المعلومات، ولو جاء ذلك متأخراً. لكن هذا الزخم لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تراجعت الكفاءة مجدداً، رغم- أو ربما بسبب- انتشار الإنترنت وكل الابتكارات الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة.

الذكاء الاصطناعي ليس استثناءً من ذلك. ستجلب التقنية الجديدة تداعيات غير متوقعة، قد تحدّ من كفاءتها المتوقعة، بل وقد تقوّضها بالكامل. لكن ذلك لا يعني أن الذكاء الاصطناعي بلا جدوى أو أن ذلك سيمنع الشركات من تبنّيه بحماسة. لكن من يعلّق آمالاً على طفرة في الإنتاجية بين ليلة وضحاها، سيجد نفسه أمام خيبة أمل كبيرة.

خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي