رمال النفط المتحركة .. تحول الاقتصاد السعودي نحو أفق جديد

في مطلع العقد الرابع من القرن الماضي كان النفط ينبض كقلب عملاق في باطن صحاري المملكة العربية السعودية ويجهز نفسه لرسم مستقبل خريطة الاقتصاد السعودي لعقود قادمة، يضخ المال في الاقتصاد ويقوم بتمويل بناء المدن وتشييد الطرق وينقل الحياة من بسيطة بدائية إلى حضارية متقدمة، لكنه كان يحمل في طياته سرًا قاتلاً، وهو سطوة الاعتماد عليه، ما أبقى الاقتصاد رهيناً له لما يقارب 7 عقود، كان الاقتصاد السعودي سجينًا لإيقاع النفط، يتأرجح مع تقلبات أسعاره كسفينة في بحر هائج وأحياناً راكدا ركودَ مَنْ لا حياة فيه.

بدأت قصة النفط السعودي في 1933، عندما وقعت السعودية اتفاقية امتياز نفطي مع شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا وهي الاتفاقية التي تم الاتفاق على أن تغطي مناطق واسعة من المنطقة الشرقية وأدت إلى تأسيس شركة كاليفورنيا العربية ستاندرد أويل لإدارة العمليات. بعد سنوات من التنقيب، جاء الاكتشاف التاريخي في 3 مارس 1938، عندما تدفق النفط من بئر دمام رقم 7 أو كما سُمي لاحقاً بئر الخير، وهو ما مثّل تبوء المملكة موقع أكبر مصدر نفطي في العالم.

هذا الاكتشاف لم يكن مجرد حدث فني، لقد كان تحولًا اقتصاديًا جذرياً، حيث بدأ الإنتاج التجاري بعدها، ما قلل الاعتماد على إيرادات الحج وفتح أبواب الاستثمار الأجنبي في القطاع النفطي الذي ما فتئ ليصبح العصب الاقتصادي الأهم في السعودية.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبح النفط السعودي أمرًا حيويًا للولايات المتحدة دفع الرئيس فرانكلين روزفلت إلى لقاء تاريخي مع الملك عبدالعزيز في 1945 لتعزيز العلاقات، وفي 1950 اكتمل خط أنابيب التابلاين لنقل النفط السعودي إلى ضفاف البحر المتوسط، ما وفر التكاليف اللوجيستية والنقل والتصدير ودعم وصول شحنات النفط السعودي إلى قارة أوروبا.

لقد شكل النفط 2012 أكثر من 90% من الدخل التصديري للسعودية وكانت الميزانية الوطنية تعتمد بنسبة تزيد على 75% على إيراداته، وهو ما جعل الاقتصاد عرضة للصدمات العالمية، اتضح ذلك جليا عندما انهار سعر البرميل في 2014 إلى أقل من 50 دولارًا، ما أثار عجزًا هائلاً في الميزانية ودفع الحكومة إلى مواجهة شبح الاستنزاف. كان ذلك العهد عصر الازدهار النفطي، لكنه كان أيضًا عصر الركود المقنع، حيث يغرق الاقتصاد في بحيرة الاعتماد على النفط وينتظر الرياح التي قد تحوله إلى قفار.

ثم جاءت الرؤية معلنة في خطاب تاريخي لولي العهد الأمير محمد بن سلمان رسم خريطة المستقبل، وإعلان رؤية 2030، ذلك الإعلان الجريء المبني على 3 أعمدة راسخة: مجتمع نابض بالحيوية يعج بالثقافة والترفيه، اقتصاد مزدهر متنوع المصادر، وأمة طموحة تقودها حكومة شفافة وفعالة.

لم تكن مجرد وثيقة، بل كانت حلما اقتصاديا يتحدى القدر، تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط إلى أقل من 50% من الإيرادات، وزيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي إلى 65%، وترقية التصنيف اللوجستي للسعودية إلى المرتبة الـ25 عالميًا.

تتالت الأحداث المفصلية التي رسمت مسار هذه الرؤية، حيث تم طرح أسهم أرامكو في سوق الأسهم عام 2019 وجمع أكثر من 29 مليار دولار، أكبر طرح أولي في التاريخ، ما حقق قفزة في الاستثمارات وفتح أبواب الشراكات الدولية. تلاها إطلاق مشاريع عملاقة كـ”نيوم”، المدينة المستقبلية بتكلفة 500 مليار دولار، و”القدية”، عاصمة الترفيه التي ستجذب ملايين الزوار سنويًا، وبرنامج تطوير القدرات البشرية الذي أعد مئات الآلاف من الشباب لسوق عمل متنوعة.

كما شملت الرؤية حملات لتمكين المرأة، ما رفع معدل مشاركتها في القوى العاملة من 22% في 2016 إلى أكثر من 35% بحلول 2025، وإصلاحات ضريبية أدخلت ضريبة القيمة المضافة في 2018 لتعزيز الإيرادات غير النفطية. هذه الأحداث لم تكن مجرد نقاط على الخريطة، بل كانت فصولًا في رواية تحول، حيث يتحول الاقتصاد من عملاق نائم إلى طائر ضخم يحلق بثبات واتزان.

واليوم، في العيد الوطني السعودي الـ95 ومع 5 سنوات متبقية على هذا الأفق، ينبض الاقتصاد السعودي بنبض جديد، يروي قصة تغيير ملموس بالأرقام التي تتحدث لغة النجاح. ارتفع الناتج المحلي غير النفطي من 16% من الإجمالي في 2016 إلى 24% في 2025، بل وصل إلى 50% في 2023، مدفوعًا بنمو القطاعات غير النفطية بنسبة 4.7% في ذلك العام وانخفض معدل البطالة بين المواطنين السعوديين إلى 6.3% في الربع الأول من 2025، أقل من الهدف المحدد.

أما في السياحة فقد استقبلت السعودية 100 مليون زائر في 2024، مقتربة من هدف 2030، ما ساهم بـ90 مليار دولار من الإيرادات، بينما تضاعفت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 26 مليار دولار سنويًا، مدعومة بإصلاحات تسهيل الأعمال التي رفعت تصنيف السعودية في مؤشر سهولة الأعمال إلى المرتبة 62 عالميًا.

وفي القطاع الخاص الذي شهد نموًا في الشركات الصغيرة والمتوسطة بنسبة 20%، كان التحول يظهر انتقالًا من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد المبادرة، حيث أصبحت الإيرادات غير النفطية تشكل 40% من إجمالي الإيرادات الحكومية، حيث ينمو الاقتصاد بنسبة 3.5% في 2025، مدفوعًا بالتحول الرقمي والاستدامة.

لكن ماذا وراء الأفق؟ في استشراف للمستقبل تتجه السعودية لتحقيق 100 مليار دولار في إيرادات السياحة، وتخطو لتكون مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي والترفيه، مع اقتصاد يعتمد أقل من 30% على النفط ومع 5 سنوات متبقية من عمر الرؤية من المتوقع أن يكون النمو السنوي 4-5% في القطاعات غير النفطية، مدعوماً بتحول الاقتصاد نحو اقتصاد رقمي معرفي.

خبير في استراتيجيات الطاقة

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي