شبابنا إلى أين..؟ (3)

ذكرت في الجزء الثاني ضمن هذه السلسلة التي نخصصها لشباب الوطن ضرورة أن يتحلّى خطابنا الشبابي بأدوات العصر؛ فيخاطبهم بوسائلهم المستخدمة، عن طريق شبكة المعلومات العالمية (إنترنت)، ومحاورتهم بلغة عصرهم عبر الندوات الإلكترونية‏..‏؛ والتواصل معهم عبر الندوات، التي تستخدم وسائط الإعلام الحديثة بعيدًا عن الجلسات التي تشبه مجالس العزاء، أو مجالس النصح والإرشاد التي توزع الحكمة يمينًا ويسارًا!‏
ودعوت إلى اتخاذ إجراء دقيق وصريح لتشخيص واقع شبابنا اليوم‏,‏ وهو واقع يمكن إيجازه بأنه قطاع حيوي ومهم، يشكّل نسبة الثلثين من إجمالي عدد السكان‏,‏ ويزخر بطاقات كامنة ومهدورة‏,‏ إن لم يكن بسبب موهبته‏,‏ فعلى الأقل بتأثير مرحلته السنية القادرة علي النشاط والعمل والعطاء‏، ولا ننسى أن شعوبًا كثيرةً تحسدنا شبابية أمتنا في ظل ما يعرف في الغرب بظاهرة الأمم العجوزة!
إن إتاحة الفرصة أمام الشباب، ليست بدعًا، وليست وجاهةً أو نوعًا من الكماليات أو حتى الديكور، إنما هي استجابة صحية، لمنطق تواصل الأجيال‏..‏ وتوظيف منطقي لطاقات ومواهب واعدة يبدو الاحتفاء بها من قبيل الواجب الوطني‏..‏ ويمكن استغلالها من باب الاستثمار الإنساني الحكيم والذكي‏.‏ إنه المنطق التاريخي نفسه للباحثين عن مناجم الذهب حين اكتشفوا القارة الشابة‏! وشبيه ذلك تفعله الدولة المتقدِّمة اليوم حين تتعامل مع النشء والشباب كمناجم للذهب تحتاج إلى عملية اكتشاف وصقل وتجلية وتشكيل‏!‏
ميدانيًا، وواقعيًا، يشكّل الشباب قضية من قضايا الحاضر المثيرة للتساؤلات والتأملات‏..‏ والتساؤلات، تبدأ من كيفية استنهاض همّتهم وبعث ثقته في نفسه وفيمَنْ حوله؛ وتحفيز مواهبه‏..‏؛ والتأملات تكمن في البحث عن كيفية توظيف هذا المخزون الكبير لديهم بإعادة إنتاج طاقاته والإيمان بقدراته، وتدويرهما على الأمل والحلم والانطلاق والمغامرة وإثبات الذات إلى مجموعة من القيم والمهارات‏ العصرية.‏
‏لن تخط‍ئ عين أي راصد ومهتم بشأننا الداخلي، إن شبابنا يكاد يكون هو القاسم المشترك في الكثير من القضايا والظواهر التي يدور حولها جدلنا الوطني والثقافي والاجتماعي في السنوات الأخيرة‏..‏ نعم‏..‏ الشباب هو الطرف الحاضر‏ ـــ‏ الغائب في قضايا الانتماء والتنمية والتعليم وظاهرة التطرف والإرهاب، والبطالة والمشاركة المجتمعية‏..‏ وهي ذاتها القضايا التي تبدو اليوم الأكثر أولويةً وإلحاحًا في حياتنا‏..‏؛ ففي كل قضية من هذه القضايا الست يمثل الشباب الرقم الأصعب، فيها، والطرف المثير للجدل‏..‏ وفي كل قضية منها تبدو حاجتنا للحوار مع الشباب ضرورة لا غنى عنها‏..‏ لكن الحوار الذي نأمله هو الحوار الذي نتجاوز فيه دور الواعظ والوصي عليهم؛ ليتقدم فيه شريكًا لا يزيدنا عنهم قيد أنملة سوى قيمة التجربة‏..‏!
ولو أخذنا قضية الانتماء مثلاً لدى الشباب؛ يجب الاعتراف بأن هناك ظواهر يتعين تشخيصها والبحث عن كيفية مواجهتها‏.‏ وأولاها ما يمكن ملاحظته من أن معظم شبابنا يبدو عُرضةً ما بين عملية انخداع ببعض التيارات الشاذة؛ وبين حالة تسطيح ثقافي وفكري لا تخطئها العين!‏ ما يدعونا جميعًا إلى ترشيد حالة الاندفاع تلك؛ لتكون في إطارها الصحيح، كذلك الحرص على الالتزام بالدين، كخيار أخلاقي وإنساني لمجموعة من قيم التوحيد والمثل العليا في إطار من قاعدة:‏ (إنما الدين المعاملة‏) بعيدًا عن نزعات التعصب والانغلاق والإقصاء.
وفي ظني لن يُكتب لهذه الرؤية النجاح ما لم نوفّر الأجواء المناسبة، لتأسيس مشروع وطني، فكري وإطار فاعل في مجال الحوار مع الشباب‏..‏ مشروع وطني، فكري ينطلق من اعتبار المواطنة أساسًا وحيدًا، ينتظم الخطابات، والأدبيات الدينية والفكرية كافةً، معيارًا يحكم منظومة الحقوق والواجبات؛ وإطار فاعل، بالوعي الثقافي لشبابنا الطلاب وفتياتنا الطالبات كمطلب ضروري لإحياء وترسيخ الانتماء الوطني لهم في مواجهة المحاولات الفاشلة لاختطاف شبابنا إلى حيث هناك؛ ناسين، أو متناسين أن عقيدتنا السمحة، بوسطيتها المعهودة عنها، ووحدتنا الوطنية، صمام الأمان، لحاضرنا ومستقبل أطفالنا وخط دفاعنا الأول والأخير‏.
بقدر حاجتنا إلى الوقوف بحزم ضد تلك التيارات الشاذة؛ فإن مواجهة حالة التسطيح الفكري لدى البعض الآخر لا تقل أهمية‏.‏ ولعل المطلوب هو استثارة حماس هذا القطاع الصامت أو الغائب وإيقاظ وعيه الوطني‏.
‏ وقد يرى الكثيرون أن غياب هذا القطاع وتغييب دوره يرجع في الأساس لعدم توافر مشروع وطني، يبعث حماسهم ويستثير خيالهم ويفجِّر طاقاتهم المعطّلة، ويبقى التساؤل: ألسنا مَنْ قصَّرنا في حق هذا القطاع الوطني العريض؛ فلم نستثر خياله الوطني ولم نستطع إقناعه بعد أن ثمة بالفعل مشروعًا وطنيًا جديرًا بإطلاق طاقاته وتحفيز همته؟!
ولماذا لا ندشّن هذا المشروع الوطني بخطة عشرية لتحقيق أعلى معدلات التنمية‏ (‏مثلما حدث للتجربة الماليزية مثلا‏)‏ كأولوية تستحق أن نحشد لها كل الجهود والطاقات جنبًا إلى جنب مع قضية إصلاح النظام التعليمي‏..‏؛ يضاف إلى ذلك اعتبار منظومة حقوق الإنسان المظلة الوطنية والثقافية التي تضمن إنجاح المشروع التنموي وإصلاح التعليم‏.‏
إن مشروعًا وطنيًا يعتمد أولويات التنمية والتعليم وحقوق الإنسان ليس أقل نبلا ولا وطنية ولا جدوى من بعض مشروعاتنا الوطنية التي أثارت الخيال وأطلقت السواعد فيما مضى..‏ وليكن هذا المشروع الوطني هو وسيلتنا لاستنهاض المجتمع وتوظيف طاقات وعزيمة شبابه‏..‏ وإشعاره‏ (وهذا هو الأهم)‏‏ أنه لم يعد متفرّجًا في عملية بناء ونهضة الوطن‏..‏ بل شريك قادر يوثق به وتعقد عليه الآمال.‏

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي