هل يشهد عام 2006 نهاية التفرد الأمريكي؟
<a href="mailto:[email protected]">ffaheem2006@yahoo.com</a>
التحدي الروسي
القاعدة الأولى في الجغرافيا السياسية لروسيا منذ القدم هي الاحتفاظ بعمق استراتيجي كبير حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها. وإذا لم يتحق ذلك يشعر الروس أنهم أعواد نخل خاوية في مهب ريح صرصر عاتية.
والتاريخ العسكري الروسي يشهد بقوة على هذه الحقيقة، فالحروب التركية ـ الروسية كانت سلسلة من الكر والفر والانطلاق عبر القوقاز الواسع، وتبادل الفريقان الهزائم والانتصارات. وعلى قدر إمكانيات سليم الأول وسليمان القانوني ومراد الأول وقادتهم العظام مثل بلطجي باشا وداود باشا وعزت باشا في الانطلاق لمسافات بعيدة في أراضي ألكساندر الأول وكاثرين الثانية ونيقولا الأول، كانت تتحدد المعارك. وقديما نجح جنكيز خان في فتح دوقية موسكو بعد رحلة طولها أربعة آلاف ميل، وكذلك فعل تيمورلنك عندما استولى على القوقاز ونقل معه أولى سلالات التتر إلى تلك المناطق. وكلنا يذكر كيف بلعت أراضي روسيا جحافل نابليون بونابرت ثم طوقها الروس بين الجليد والغابات، فقضوا على معظمها مما جعل المؤرخين يجمعون على أن الهزيمة في روسيا هي التي قضت على نابليون قبل هزيمته المشهودة في ووترلو على يد الإنجليزي اللامع دوق ويللنجتون، حتى أن نابليون أطلق على أحد قادته وهو ناي أشجع الشجعان لأنه نجح في استعادة فرقته والانسحاب بها غربا. وتكررت القصة مع هتلر، عندما طبق ستالين معه استراتيجية الأرض المحروقة التي طبقت مع نابليون، فانسحب الروس شرقا وتقدمت فرق زيجلر وأرنيم وفون باولوس إلى قلب روسيا حتى هزمت في ستالينجراد بعدما طالت خطوط إمدادها وهجم الجليد على جنودها واتسعت وطالت مساحة الجبهة وانتصر الروس انتصارا تاريخيا بقيادة زدكوف، وقتل مليون ألماني وكانت بداية النهاية بالنسبة لهتلر.
هذه الشذرات حول جوهر الفكر العسكري الروسي وتعامله مع الأرض في غاية الأهمية، لأنها تعكس سيكولوجية تعرف باسم "نفسية الحواجز"، ذلك أن روسيا بحاجة دائمة إلى منطقة حواجز وحدود فاصلة مانعة تقوم بدور القلعة أو الخندق لمنع الغزو عبر أراضيها مترامية الأطراف.
من هنا نشأت السياسة الروسية القائمة على إنشاء مناطق عازلة ضد أي من المعتدين، ففي العقلية الروسية تعتبر أوكرانيا جزءا لا يتجزأ من النفسية والكيان الروسي، وهي بمثابة قلبها الصناعي والزراعي، ولكن الأهم من ذلك كله أن أوكرانيا هي أهم درع يقي صدر روسيا وأهم منطقة عازلة تحول بينها وبين العدوان.
ولا شك أن مشاعر الشعوب التي تعيش في هذه المناطق العازلة ليست ودية، وهنا تأتي القاعدة الثانية في الفكر الجيوسياسي الروسي وهي: على روسيا أن تختار بين الإنفاق على الأمن أو الاقتصاد، إذ لا يمكنها أن تحتفظ بهما معا، ففي الفترة من 1985 وحتى 2004، حاول الكرملين مبادلة الفراغ والفضاء الجيوسياسي بالمزايا الاقتصادية. ومع الثورة البرتقالية الأوكرانية التي أججتها الولايات المتحدة 2004 أصبح من الواضح أن هذه السياسة فاشلة، فبدأت روسيا 2005 التدخل بقوة كلما أتيح لها ذلك. ونجحت وفشلت بدرجات متفاوتة، ففي الشيشان نجحت روسيا بدرجة كبيرة في احتواء الثورة بقتل واغتيال زعمائها واحدا بعد واحد (وهي نفس الاستراتيجية الإسرائيلية مع حماس!)، ولكن ذلك لم ينه الموقف، لأن زعماء آخرين تولوا القيادة وروسيا لا تعرفهم، لذلك أصبحت مهمتها القمع الجماعي والضرب العشوائي في الشيشان. ويلاحظ هنا أن تصاعد ثورة الشيشان أحدث تقاربا بين روسيا والولايات المتحدة باعتبار العدو المشترك وهم المسلمون، ولكن هدوء الجبهة الشيشانية وسخونة الأحداث في أوكرانيا ضد مصالح روسيا، دفعا روسيا إلى التفكير في سياسة مواجهة أكثر فعالية مع الولايات المتحدة. وقد نجحت روسيا في أوزبكستان نجاحا كبيرا، عندما لعبت بورقة الصراعات العرقية وأقنعت حكومة طشقند بإبقاء روسيا هناك. أما الفشل الروسي حتى الآن فيتمثل في جورجيا وأوكرانيا، فضلا عن التحديات التي تواجهها روسيا في كازاخستان وقرقيزيا وتركمانستان بسبب النفوذ الصيني والإسلامي في هذه الدول.
والسبب في صعوبة التحديات أمام روسيا يكمن في كراهية قديمة للروس على امتداد حدود روسيا وباتساع الاتحاد السوفياتي القديم، ذلك لأن كل تلك الدول القابعة على الحدود كانت مجرد توابع عديمة الشأن، عانت من الهيمنة والتعالي والاستغلال والقمع الروسي أثناء السيطرة الشيوعية، ورغم أن روسيا دولة قوية، إلا أن ذراعها لا يمكنها أن تصل إلى أي مكان الآن، كما أن منافسي روسيا يعرفون ما يريدون، فالصين تريد سيبيريا، حيث الغاز والنفط والتاريخ التليد عندما كانت سيبيريا جزءا من الإمبراطورية الصينية، والاتحاد الأوروبي يسيل لعابه على أوكرانيا، باعتبارها مزرعة مثالية ودولة نووية لها وزنها وجارة فاصلة عن آسيا والعالم الإسلامي، أما الخصم الثالث والأهم وهو الولايات المتحدة، فيريد أن يبقى كما هو: القوة الأهم والأعظم في العالم، وهي تريد أن تبقى بمفردها في هذا الوضع.
والأخطر من ذلك كله أن روسيا لم تؤسس رؤية نهائية محددة إزاء رغبتها في الصعود، وكل ما نعرفه هو سخط روسيا على محاولة الولايات المتحدة صنع مناطق نفوذ لها في دول الاتحاد السوفياتي السابق، مما جعل بوتين يفكر بجدية في الانطلاق قدما نحو التحدي مرة أخرى. ويفخر بوتين بأنه حقق النجاح مرتين: الأولى عندما احتوى ثورة الشيشان التي كانت على وشك الانتقال إلى جمهوريات القوقاز الأخرى كافة: داغستان والأنجوش وأوستيا وتتارستان وغيرها، والثانية عندما نجح في طرد القوات الأمريكية من أوزبكستان، حيث كانت واشنطن قد نجحت في الحصول على قاعدة هناك، فضلا عن هجوم اقتصادي أمريكي رهيب، ثم إجهاضه تدريجيا. ومن المتوقع أن يشهد عام 2006 مزيدا من الانطلاقات الروسية لدعم الاستراتيجية الجديدة.
ومن أبرز الأحداث التي تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود تغير جذري روسي تعيين كل من ديمتري ميد فيديف وسيرجي إيفانوف وزير الدفاع في منصبي نائب رئيس الوزراء. والرجلان يؤمنان بالفلسفة الواقعية العملية ولا يعتنقان المثالية الوهمية التي تنص على تقليد الغرب، أو النقيض الذي يعيش في خيالات أن الغرب يتآمر على كل شيء، إذ يعتقد كل من ميد يديف وإيفانوف ومعهما بوتين أن نقطة البداية تأتي مع تقوية كل عنصر من عناصر الصعود على حدة دون ضوضاء، مع التصدي لأمريكا في أوكرانيا وإيران وهم يدركون ما يلي:
ـ أن روسيا هي المصدر الأكبر للغاز الطبيعي لكل دول غرب أوروبا، وسترتفع أسعار الغاز ارتفاعا هائلا، مما سيثري روسيا ويجهد الغرب.
ـ ستلعب روسيا على ورقة "الثورات الملونة" في دول آسيا الوسطى وكانت تلك الدول تتذرع بأن الإسلاميين هم المشكلة، ولكن الأحداث أثبتت أن العرقيات المختلفة هي السبب وراء عدم الاستقرار. لذلك فإن روسيا ستحرص على دعم القوة العسكرية لها ولتلك الدول للتصدي للثورة الملونة، وهو ما يعني اختراقا وهيمنة روسية في تلك الدول، وإبعادا للولايات المتحدة، وبداية لمناطحتها.
ـ أسعار الغاز المرتفعة باطراد سوف تؤدي إلى زيادة مطردة في دخل روسيا، مما يؤهلها لشراء أسلحة جديدة، وهي ما ستخدم روسيا كعصا وجزرة في آن واحد. عصا لأوكرانيا وجورجيا وجزرة لجمهوريات آسيا الوسطى.
ويعتقد المهتمون بالشأن الروسي والمواجهة بينها وبين الولايات المتحدة أن روسيا ستدخل بقوة في المناطق الهشة، ولكنها ستتريث في المناطق ذات المقاومة العالية، ففي جورجيا مسقط رأس ستالين وشيفارنادزة هناك شعور قوي مناهض لروسيا، وقد ألقت جورجيا بنفسها في أحضان المصالح الاقتصادية الغربية وراهنت عليها.
ومع العقد الذي أبرمته جورجيا مع برتش بتروليوم لإنفاذ خط أنابيب نفط إلى تركيا، فإن روسيا لا تملك إلا التمني بأن تنهار جورجيا، وهي لن تسكت بما لديها من رجال وخبرات في الشأن الجورجي، ولكن ذلك لن يتم في شكل مواجهة صريحة. أما في أوكرانيا فسيلعب الروس من وراء الستار مع كافة العناصر المعارضة، مما يعيد للذاكرة ممارسات الحرب الباردة، وستلعب روسيا على وتر أنها المنقذ للأوكرانيين من دولة لا تعرف إلا مصالحها فقط مستترة بسلسلة شعارات تهاوت واحدا في أثر الآخر. والطريف أن الانتخابات البرلمانية ستكون ساحة المباريات بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا، وسيحرص الروس على إدارة أمورهم بنعومة ودون تحديات صارخة، وعلى الطريقة الأمريكية وفي ضوء من يفز في جورجيا وأوكرانيا سيكون مسمار آخر قد تم دقه في نعش النفوذ الأمريكي في العالم، وسيكون بمثابة سوط مؤلم قد يدفع راعي البقر إلى الفرار من المنطقة.