مع الأسف .. تاهت فكرة باول في الأسواق

ضاع في خضمّ ردّ الفعل الاحتفالي المبالغ فيه بأن الفيدرالي سيخفض الفائدة في سبتمبر بعض من دلالات خطاب جيروم باول في جاكسون هول
 

ارتفع مؤشر "إس آند بي 500" ليقترب من تحقيق أكبر مكاسب له منذ مايو، فيما تراجعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية القياسية


يدور نقاش حاد بين الحمائم والصقور حول ما إذا كانت الظروف الاقتصادية تبرر سياسة نقدية متشددة


يبدو الاحتياطي الفيدرالي مستعداً لخفض الفائدة الشهر المقبل لكن مواصلة تخفيف السياسات قد تكون بوتيرة أبطأ مما تتوقعه الأسواق


الولايات المتحدة الأمريكية


خلال خطاب له أمام لجنة بمجلس الشيوخ عام 1987، قال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، آلان جرينسبان: "إذا بدا كلامي واضحاً لك بشكل مفرط، فلا بد أنك أسأت فهم ما قلته". أتساءل إن كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الحالي، جيروم باول، يفكر في الشيء نفسه.

في خطابٍ طال انتظاره بالاجتماع السنوي للبنك المركزي في جاكسون هول، بولاية وايومنج، يوم الجمعة الماضي، قال باول إن التوقعات الاقتصادية "قد تستدعي تعديل" موقف البنك المركزي من السياسة النقدية. دفعت هذه التعليقات أسواق الأسهم والسندات إلى الارتفاع، حيث اعتبرها المتداولون إشارةً مؤكدة بأن صانعي السياسات بالتأكيد سيخفضون أسعار الفائدة في اجتماعهم المقبل منتصف سبتمبر. كان مؤشر "إس آند بي 500" على وشك تحقيق أكبر مكاسب له منذ مايو، بينما تراجعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية القياسية، ما يشير إلى انخفاض تكاليف الاقتراض في جميع أنحاء الاقتصاد.

ضاع في خضمّ ردّ الفعل الاحتفالي المبالغ فيه بعضٌ من دلالات خطابٍ كان يدور في الأساس حول محاولة موازنة المخاطر المزدوجة الناجمة عن سوق العمل والتضخم. ثمّ هناك التعقيد المتمثل في أنّه إذا خفّض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، فقد يكون ذلك بسبب تدهور الاقتصاد واضطراره لذلك، وليس لأنه قادرٌ على ذلك بسبب تضخم تمت السيطرة عليه.


مهمة معقدة للاحتياطي الفيدرالي


في الواقع، أقرّ جيروم باول بأن صانعي السياسات يواجهون مسؤولية معقدة ضمن مهمتهم المزدوجة المتمثلة في تعزيز أقصى قدرٍ من التوظيف واستقرار الأسعار. فعلى الرغم من انخفاض معدل البطالة، بدأت بيانات سوق العمل بالتذبذب حتى مع بقاء التضخم المُعلن أعلى بقليل من هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%. إليكم كيف عبّر باول عن الأمر (التأكيد من عندي):

عندما تكون أهدافنا متضاربةً بهذا الشكل، فإن إطار عملنا يدعونا إلى الموازنة بين المهمة المزدوجة التي تم تفويضنا لإنجازها. أصبح سعر الفائدة الرئيسي لدينا الآن أقرب بمقدار 100 نقطة أساس إلى الحياد مما كان عليه قبل عام، ويسمح لنا استقرار معدل البطالة وتدابير سوق العمل الأخرى بالمضي قدماً بحذرٍ بشأن دراسة أي تغييرات في السياسات. رغم ذلك، ومع بقاء السياسة النقدية في نطاق التقييد، فإن التوقعات الأساسية وتغير توازن المخاطر قد يستدعيان تعديل موقفنا من السياسة النقدية.

ولزيادة التأكيد، أضاف باول أن "السياسة النقدية ليست على مسار محدد مسبقا".

عندما يكون أحد المتغيرين الرئيسيين لهدف الاحتياطي الفيدرالي غير متوازن بشكل كبير (كما كان الحال مع معدل تضخم 9.1% في عام 2022، على سبيل المثال)، فقد يكون من السهل نسبياً على البنك المركزي التوصل إلى إجماع بشأن إجراءات السياسة النقدية. ولكن في الأشهر الأخيرة، بدأ الاقتصاديون وصانعو السياسات يختلفون حول اقتصاد جيد في معظمه بناءً على البيانات السابقة، لكنه في بعض جوانبه مقلق. في هذا السياق، شهد قرار يوليو بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير عند 4.25% إلى 4.5% معارضتين من محافظي الاحتياطي الفيدرالي، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك منذ 1992.


تأثير سياسات الهجرة


ومما يزيد من الارتباك أن سياسات الهجرة تحُد الآن من العمالة المتوفرة، ما يعني أنه من الصعب تحديد مستوى نمو الرواتب اللازم لمنع معدل البطالة من الارتفاع. وصرح باول يوم الجمعة: "بشكل عام، بينما تبدو سوق العمل في حالة توازن، إلا أنها حالة غريبة من التوازن ناتجة عن تباطؤ ملحوظ في كل من العرض والطلب على العمال". وأضاف "يشير هذا الوضع غير الاعتيادي إلى تزايد مخاطر تراجع التوظيف. وإذا تحققت هذه المخاطر، فقد تتحقق بسرعة في صورة قفزة حادة في معدلات تسريح العمال وارتفاع كبير في البطالة".

السبب الرئيسي لتخفيضات الاحتياطي الفيدرالي للفائدة، بعبارة أخرى، هو قلق صانعي السياسات من التدهور الاقتصادي. وأشار باول أيضاً إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من العام بلغ نحو نصف وتيرة عام 2024، وجزء من هذا التباطؤ مدفوع بتراجع إنفاق المستهلكين- وهو ما لا يُمثل بيئة مناسبة لنمو مستدام في سوق الأسهم.

ثم هناك مخاطر التضخم. لا يزال عديد من الاقتصاديين قلقين من أن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترمب ستدفع أسعار السلع إلى الارتفاع خلال الأشهر والأرباع المقبلة. لا يزال التأثير متواضعاً إلى حد ما حتى الآن، حيث تجاوزتها الشركات عبر استنفاد مخزوناتها الموجودة سلفاً، فيما قبل بعضها هوامش ربح أقل على مبيعات السلع المستوردة. ولكن بالنسبة للمنتجات باهظة الثمن مثل السيارات الجديدة، لا يزال المطلعون في القطاع يتوقعون ارتفاع الأسعار في وقت لاحق من العام عند طرح طرازات عام 2026 في السوق.


نقاش حاد بين الحمائم والصقور


يدور نقاش حاد حول ما إذا كانت هذه الظروف تبرر سياسة نقدية متشددة: يقول الحمائم إنه ينبغي على صانعي السياسات تجاهل التغيرات السعرية "المؤقتة" وتركها تتلاشى من تلقاء نفسها مع الوقت، بينما يخشى الصقور من أن الرسوم الجمركية تضرب البلاد في وقت تعاني فيه بالفعل ارتفاع التضخم منذ ما يقرب من 5 سنوات، وأن مسار كبح التضخم لا يسير بسرعة وسلاسة. يعتقد معظم الاقتصاديين أن توقع التضخم يجعله يتحقق، وأن المجتمعات التي تعتاد على ارتفاع الأسعار كجزء طبيعي من الحياة ستجد صعوبة أكبر في اقتلاعه.

بدا باول وكأنه يضع نفسه في معسكر من يرون أن تأثيرات الأسعار الناجمة عن الرسوم الجمركية مؤقتة. وعلى الهامش، قد يكون هذا سبباً إضافياً دقيقاً لتفسير خطابه على أنه ينطوي على تحيز "للحمائم". لكنه أقر بالمخاوف وأعلن أنه "لا يمكننا اعتبار استقرار توقعات التضخم أمراً مسلماً به".

طريقة تلقي الخطاب ربما تفيد باول من عدة جوانب. فإضافة إلى تحدياته المرتبطة بالسياسات، تصدى رئيس الفيدرالي في الوقت نفسه لمطالب ترمب بخفض كبير لأسعار الفائدة. يُهدد ترمب بإقالة ليزا كوك، حاكمة بنك الاحتياطي الفيدرالي، بسبب اتهامها باحتيال محتمل مرتبط بالرهن العقاري، وهو ما يبدو أنه يتماشى مع حملة ضغوط البيت الأبيض لكسب مزيد من النفوذ على لجنة تحديد أسعار الفائدة في البنك المركزي. ولم يظهر في خطاب باول، بأي حال من الأحوال، أي بوادر رضوخ لترمب، الذي يُعرف عنه بأنه يعتبر سوق الأسهم بمثابة بطاقة تقييم لأداء إدارته الرئاسية.

ربما تكون السوق قد بالغت في تفسير ميل الخطاب لفريق الحمائم، أو ربما كان المستثمرون يتوقعون نبرة أكثر تشدداً. كان الواقع أكثر رتابة، ولكنه مناسب تماماً للظروف. بالنظر إلى البيانات المتوفرة لدينا، يبدو الاحتياطي الفيدرالي مستعداً لخفض أسعار الفائدة في أقرب وقت، ربما الشهر المقبل، واستئناف عملية جس النبض بعد ذلك للوصول إلى المستوى المناسب من أسعار الفائدة لدعم النمو المستدام مع انخفاض التضخم، إلا أن التوقعات لا تزال غامضة للغاية، وقد تسير عملية تخفيف السياسات بوتيرة أبطأ مما تتوقعه الأسواق.


خاص بـ "الاقتصادية"


صحفي في "بلومبرغ" في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، حيث غطى الشؤون المالية والأسواق وعمليات الدمج والاستحواذ. شغل رئيس مكتب الشركة في ميامي. 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي