الجغرافيا وأدوار الدول في أقاليمها والعالم

<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>

كانت الجغرافيا ولا تزال عنصراً محورياً في تحديد طبيعة الأدوار الخارجية لأي دولة في العالم القديم أو المعاصر. ولا شك أن دور الجغرافيا كان أكثر حسماً وأهمية في العالم القديم حيث لم تكن وسائل النقل والاتصال والأسلحة الفائقة السرعة الهائلة المسافات قد ظهرت بعد لكي تقلل نسبياً من أهمية الموقع الجغرافي للدول. ومع ذلك فلا يزال للجغرافيا أهميتها الواضحة في أدوار الدول وعلاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي وحدود حركتها في كل منهما.
ولعل الجغرافيا كانت ـ ولا تزال ـ من أبرز العوامل التي حددت لكثير من الدول العربية ومنها مصر على سبيل المثال حدود وطبيعة الأدوار الإقليمية والدولية منذ قرون بعيدة وحتى اليوم. ويلخص الجغرافي والمؤرخ المصري الرفيع الراحل جمال حمدان تلك الأهمية في كتابه العمدة "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" عندما يقول: "الحقيقة العظمى في كيان مصر نقطة البدء لأي فهم لشخصيتها الاستراتيجية، هي اجتماع موقع جغرافي أمثل مع موضع طبيعي مثالي وذلك في تناسب أو توازن نادر المثال. فالموقع والموضع هنا متكاملان جداً في الدور. فمصر ليست مجرد محطة طريق حاسمة أو صومعة غلال ضخمة بل هي هما على السواء". فعلي صعيد الموقع تعد مصر المنطقة الوحيدة المعمورة بكثافة على طول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وتعد, بحجمها السكاني الذي يزيد اليوم على 70 مليوناً, أكبر وأضخم رقعة معمورة في شمال إفريقيا وغرب آسيا ابتداء من المحيط الأطلنطي وحتى حدود الهند. أما عن الموقع، فإذا كان مركز العالم القديم هو منطقة الشرق العربي فقد كانت مصر هي مركز ذلك الشرق حيث تجتمع فيها القارات الثلاث، إفريقيا وآسيا وأوروبا، وتفترق البحار الداخلية المهمة. أما في العالم الحديث والمعاصر، فإن موقع مصر علي قناة السويس وقربها الشديد من منطقة الخليج الاستراتيجية نفطياً وجغرافياً وعسكرياً فضلاً عن وجود الدولة العبرية على حدودها الشرقية قد جعل من موقعها الجغرافي ذا أهمية إضافية.
ولا شك أن الدور المصري الإقليمي والدولي قد تراجع خلال الفترات الأخيرة بالرغم من استمرار أهمية الموقع الجغرافي بفعل عوامل عديدة داخلية وإقليمية ودولية، إلا أن تلك العوامل الجديدة، علي أهميتها وجدة بعضها، لا يرجح أن تؤثر في استمرار تأثير الموقع الجغرافي والدور المركزي لمصر. فقد ظلت مصر طوال القرون الـ 60 من تاريخها سواء كانت دولة إمبراطورية أو دولة مستعَمَرة من قوى أجنبية. وبالرغم من ظهور العديد من التغيرات الكبرى التي شهدتها البشرية طوال ذلك التاريخ، كما يقول جمال حمدان "دائماً مركز دائرة قلت أو كبرت، ضاقت أو اتسعت، لكنها دائماً دائرة لها محيط وأبعاد وهي مركز ثقله وجاذبيته ولها الدور القيادي فيه". وحتى في مراحل الانحطاط وفي أسوأها ، كما يضيف المفكر الكبير الراحل "حتى وهي مستعَمَرة محتَلَة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فلقد كانت مركز دائرة وليست على هامش دائرة أخرى. ونادرة جداً هي المراحل التي انزلقت فيها إلي قوة بينية بدلاً عن مركز القوة الذي كانت غالباً".
إلا أن ما كتبه جمال حمدان لا يعني على الإطلاق أن الدور المصري الإقليمي والدولي سوف يتحقق تلقائياً لمجرد الموقع الجغرافي، فالرجل يرى أن هناك شروطاً ضرورية لكي تلعب مصر الدور الاستراتيجي الأمثل في الإقليم المحيط بها. فبصورة عامة يرى جمال حمدان أن "كيان مصر ومصيرها حصيلة مباشرة للعلاقة المتغيرة بين قيمتها كموقع وقوتها كموضع: موقع خطير يتطلب لتحقيقه وضمانه موضعاً غنياً كفئاً، فإذا ما اجتمعا طفرت مصر كقوة إقليمية كبرى، أما إذا قصر الثاني عن الأول وقصر دون متطلباته وقعت مصر فريسة إقليمية وضحية". وفي العصر الحديث الذي نعيش فيه يبدو بديهياً ومؤكداً أن امتلاك هذا الموضع الغني الكفء المكمل للموقع الجغرافي رهن بامتلاك مقومات وعناصر التقدم الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية. ولا يبتعد ذلك التصور كثيراً عن رؤية جمال حمدان نفسه في كتاب آخر له حول أهمية التكنولوجيا ليس فقط في قيام مصر بدور استراتيجي إقليمي بل أيضاً في الحفاظ على استقلالها. فهو يرجع سقوط مصر في أيدي قوى أجنبية عديدة عبر التاريخ مثل الهكسوس في القرن 17 قبل الميلاد والعثمانيين الأتراك في القرن الـ 16 بعد الميلاد والفرنسيين في نهاية القرن الـ 18 والإنجليز عام 1882، إلى التفوق التكنولوجي لتلك القوى بالقياس إلى مصر وقتها. وبالتالي فحسب صياغة الجغرافي الكبير الراحل "فالدرس الواضح هو أن مصر، أكثر من أي بلد آخر ربما، لا تملك أن تتخلف عن العصر تكنولوجياً أو تدفع الثمن باهظاً".
وما ينصرف إلى مصر فيما يخص تدعيم أهمية الموقع بقوة الموضع حسب ينصرف إلى عديد من الدول العربية الأخرى التي قد تملك الأول ولكنها تفتقد الثاني. ولأن الموقع الجغرافي بمثابة قدر مكتوب على الدول والأمم لا مهرب لها، فهي تملك أن تغير من موضعها أو عناصر ومكونات قوتها الذاتية التي تضيف إلى ذلك الموقع الجغرافي المهم إذا وجد أو تعوضه إذا لم يكن متوافراً. ولا شك أن هناك عديدا من العوائق سوف تقف في طريق امتلاك الدول العربية، وفي مقدمتها مصر بسبب ظروفها الخاصة، لهذه القوة، إلا أن إصرارها على السعي إليها سيكون هو الطريق الوحيد لصنع المستقبل لها جميعاً ولمنح من يمتلك منها موقعاً جغرافياً متميزاً القدرة على القيام بدور إقليمي استراتيجي بارز في المنطقة المحيطة بها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي