التجديد العمراني وأزمة الإسكان

أزمة الإسكان في المملكة ستظل محل الحديث والتداول حتى يقيض الله لها حلا يتجاوز حدود الجهود المتناثرة التي تبذلها على استحياء أجهزة الدولة ومؤسسات القطاع الخاص ذات العلاقة بهذه القضية. والمشكلة أن جل تلك المبادرات والجهود تدور في غالبها في فلك الإطار التقليدي للتعامل مع مشكلات التنمية في بلادنا، ولم يتطرق أي منها بعد إلى تناول هذه القضية بما تستحقه من إبداع وتحرر من تلك الأطر التقليدية، ومحاولة التفكير خارج الصندوق كما يقال. وما يتداوله كتاب الرأي في الصحافة السعودية من آراء وأفكار ما زالت في مجملها حبيسة تلك الصحف، عاجزة عن أن تجد لها من يبادر إلى تبنيها واحتضانها ووضعها موضع التنفيذ، سواء على مستوى أجهزة الدولة، وعلى رأسها الهيئة العامة للإسكان، أو على مستوى الشركات العقارية ومؤسسات التمويل، التي يمكن أن تمثل لها تلك الأفكار فرصا حقيقية لاقتناص قصب السبق، وتحقيق عوائد مجزية في معالجة هذه الأزمة الكأداء. ويأتي هذا المقال ليطرح محورا جديدا من محاور الحل المأمول، متطلعا إلى أن يجد له مكانا من الاهتمام والتناول الجاد على أرض الواقع.
أنطلق في هذا المقال من آخر الأخبار التي تمس هذه القضية، وهو خبر قرار وزارة الشؤون البلدية والقروية السماح ببناء 50 في المائة من مساحة المباني السكنية كملاحق علوية على أسطح تلك المباني، وكذلك مجمل التعليقات التي دارت حول هذا الخبر، بما فيها تعليق أمين المنطقة الشرقية الذي قال فيه إن هذا القرار سيضيف مساحات سكنية تكفي لاستيعاب نحو مليون نسمة في المنطقة الشرقية وحدها. ومع أن هذا القرار يمثل في وجهة نظري خطوة إيجابية في اتجاه صياغة التشريعات الداعمة لحل أزمة الإسكان، إلا أنه كالعادة يأتي مبتورا عن مجمل منظومة الإجراءات التي يمكن أن تؤسس لمعالجة هذه المشكلة معالجة شاملة. وتأتي هذه الرؤية مبنية على حقيقة واقع وحالة المباني السكنية التي تم إنشاؤها عبر السنوات الـ 40 الماضية عبر آليات البناء والتطوير الفردي، التي أسست لها ورسختها الدولة عبر آليات منح الأراضي الفردية وقروض صندوق التنمية العقاري. وفي الحقيقة، فإن معظم المباني السكنية القائمة لا يملك المقومات الفنية والهندسية اللازمة للاستفادة من هذا القرار، خاصة في ظل غياب المعلومات الموثقة عنها في شكل مخططات هندسية معتمدة، وكذلك غياب الرقابة والإشراف الهندسي على تلك المباني أثناء إنشائها، الأمر الذي يجعل مسألة البناء الإضافي في تلك المباني مخاطرة هندسية يتحملها ملاك تلك المباني، أو أنها ستكون عقبة في سبيل إصدار الجهات البلدية للتراخيص اللازمة لبناء تلك الإضافات على الأسطح كنتيجة لغياب المعلومات الهندسية الكافية لضمان إمكانية تحمل تلك المباني لتلك الإضافات. وفي النتيجة، فإن النتائج المأمولة لذلك القرار لن تتحقق بحجم التوقعات والأرقام التي يصرح بها القائمون على الأجهزة البلدية، ولن تحقق بذلك الإسهام المأمول في حل الأزمة.
أعود إلى الحديث عن عنوان المقال، فمصطلح التجديد العمراني هو مصطلح حديث في العموم، ويتعلق بالتعاطي مع البنى العمرانية القائمة التي تم إنشاؤها في مراحل عمرية معينة، لتطوير تلك البنى بما يتوافق مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية والتقنية والبيئية وغيرها. هذا المصطلح يستند في أساسه إلى حقيقة أن البنية العمرانية القائمة تشكل أصلا ذا قيمة حيوية، يمكن أن يكون أساسا لاستثمار موجه يوظف هذه البنية القائمة، ويسعى إلى تطويرها وتحديثها لتحقق استجابة للمتطلبات المستجدة في حياة المدن وسكانها. وبالنظر إلى حالة التنمية العمرانية في المملكة، نرى أن تلك التنمية التي حققت أهدافها في مراحل سابقة، لم تعد تحقق رغبات وتطلعات ومتطلبات سكان المدن في الوقت الراهن، خاصة في ظل واقع حالة تلك البنية العمرانية، وخاصة في الجزء السكني منها، والذي تم بناؤه كما ذكرت عبر آليات البناء الفردي. هذا الواقع هو الذي أدى في وجهة نظري، إلى بروز ظاهرة شيخوخة الأحياء، وتهالك البنية العمرانية للأحياء السكنية في عمر قصير نسبيا مقارنة بمثيلاتها في كثير من الدول الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تعاظم الحاجة إلى التوسع الأفقي للمدن، وتطوير أحياء سكنية جديدة، مع كل ما يوقعه هذا الأمر من أعباء على الأجهزة البلدية لتحمل أعباء مد الخدمات لتلك الأحياء الجديدة. وهو ما أبرز كذلك ظاهرة تحول الأحياء القديمة إلى استخدامات أخرى مختلفة بعيدة عن وظائفها الأساسية، وأصبحنا نرى مراكز المدن وأحياءها القريبة من مراكز الخدمات يتم إشغالها بمستودعات وأنشطة تجارية ومكتبية ومساكن للعمالة، ناهيك عن بعض الاستخدامات الخارجة عن القانون التي سمعنا عن مثلها الكثير.
من هنا يأتي السؤال، لماذا لا تقوم الجهات البلدية، وعلى رأسها وزارة الشؤون البلدية والقروية، بوضع خطة استراتيجية تتبنى مفهوم التجديد العمراني لإعادة الحياة للأحياء القديمة والمتهالكة في المدن السعودية، والعمل على توجيه الاستثمار لتنمية تلك الأحياء وإعادة توظيفها لاستيعاب حاجة السكان المتزايدة للمساكن؟ إن هذه البنى العمرانية تتمتع بكثير من المميزات التي تجعل منها فرصة حقيقية للشركات العقارية لتحقيق عوائد مجزية عبر استثمار وتوظيف تلك الأصول القائمة، وفي الوقت ذاته تسهم في معالجة أزمة الإسكان بفعالية كبيرة. إن واقع تلك الأحياء يؤكد أنها تمثل فرصة حقيقية للنجاح، وخاصة أن أسعار الأراضي فيها يماثل إن لم يكن يقل عن أسعار الأراضي في الأحياء الجديدة الواقعة على أطراف المدن. كما أنها تتمتع بمميزات القرب من مراكز الخدمات والمرافق وشبكات الطرق، وتحظى بمناخ أمني كبير، مقارنة بتلك الأحياء الجديدة غير المكتملة، التي تعاني قصور الخدمات والمرافق، وتعاني غياب حس الأمان والراحة. أعلم أن هذا الطرح يواجه الكثير من العقبات التي ربما يكون أهمها قضية تعدد الملكيات في تلك الأحياء، وهي المشكلة التي وقفت حتى الآن حجر عثرة في سبيل تحقيق النجاح المأمول في مبادرات مماثلة للتجديد العمراني في بعض المشروعات، ومنها مشروع تطوير منطقة الظهيرة في الرياض، ومشروعا تطوير حي خزام وحي الرويس في جدة، وربما غيرها من المشروعات التي لم أسمع عنها بعد، وربما تكون حبيسة الأدراج. ولكني أعتقد جازما أن وزارة الشؤون البلدية والقروية والجهات البلدية الأخرى، تملك مفتاح الحل وزمام المبادرة لوضع خطة استراتيجية لتبني هذا المفهوم بالشراكة الفاعلة مع القطاع الخاص، ودعم هذا التوجه بالتشريعات اللازمة لتحقيق النجاح المأمول منه، استنادا إلى تقييم وفهم المشكلات والعقبات التي واجهت تلك المشروعات التي أشرت إليها، لتؤسس آلية واضحة المعالم تلعب فيها الجهات البلدية دورا أساسيا مدعوما بصلاحيتها المؤسسية الرسمية.
خلاصة القول، حل مشكلة الإسكان يتطلب حلولا مبدعة على كل المستويات، ومفهوم التجديد العمراني لن يسهم فقط في حل هذه المشكلة، بل سيؤدي إلى معالجة تصحيحية لواقع البنية العمرانية المتهالكة للمدن السعودية القائمة، ويسهم في حل كثير من المشكلات التي تسبب فيها هذا الخلل الذي أضر كثيرا بحياة الناس والمجتمعات السعودية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي