عهود في سطح الحرم المكي (2 من 2)
تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن أولئك الربانيين الذين استفادوا ويستفيدون من مدرسة رمضان، الذين خضعوا للاختبار النهائي تحت رعاية الله ـــ سبحانه ـــ فنجحوا بدرجات مختلفة، ولكنهم نجحوا وهذا مبتغى كل مسلم عاقل، فتغيرت حياتهم وسلوكهم وأخلاقهم إلى الأفضل واستمرت كذلك، ليس فقط في رمضان ولكن بعد رمضان، وليس بشكل مؤقت ولكن بشكل مستمر وثابت، وهذا هو النجاح. أما من لا يعرف الله ولا يخافه ولا يعبده ولا يؤدي حقوقه إلا في رمضان، ومن لا يؤدي ولا يحترم حقوق الآخرين إلا في رمضان، ومن لا يترك الحرام إلا في رمضان، ومن لا يصلي إلا في رمضان، ومن لا يصدق إلا في رمضان، ومن لا يتصدق إلا في رمضان، ومن لا يؤدي عمله على الوجه المطلوب إلا في رمضان، ومن لا يؤدي الأمانة إلا في رمضان، ومن لا يعدل إلا في رمضان، ومن لا يحفظ المال عاماً أو خاصاً إلا في رمضان، ومن لا يبتسم إلا في رمضان، ومن لا يجلس مع أولاده إلا في رمضان، ومن لا...إلخ، فأقل ما يمكن أن نطلق عليهم أنهم رمضانيون، يكيفون ويغيرون سلوكهم وأخلاقهم فقط في رمضان، وكأن الله موجود فقط في رمضان. بل إن بعض هؤلاء يؤجل أعماله وتعاملاته مع الآخرين وحقوقهم إلى ما بعد رمضان حتى لا يتأثر بأخلاقيات رمضان ويتخذ القرارات الخطأ (في نظره).
ماذا يريد الرمضانيون من تغيير سلوكهم وأخلاقهم وتعاملاتهم بشكل مؤقت في رمضان؟ هل يعتقدون أنه يمكن لهم الحصول على الجوائز الرمضانية الربانية دون أن يلتزموا ويثبتوا استحقاقهم لها؟ هل يعتقدون أنهم أذكى وأدهى وأشطر من الآخرين؟ وحتى لو كانوا كذلك ـــ وهذا مستحيل ـــ وخصوصاً عند التعامل مع الآخرين على أساس معايير أخلاقية مختلفة، فهل يعتقدون أنهم أكثر مكرا من الله ـــ سبحانه؟ "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"؟ هل يعتقدون أن الله لا يعلم حقيقة نياتهم، وإذا ما كان سلوكهم وأخلاقهم وتعاملاتهم في رمضان زائفة "ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". ما نلاحظه في رمضان على كثير من الناس، وبشكل مفاجئ، الهدوء والتسامح ولين الجانب في طريقة تعاملهم وحديثهم مع الآخرين، سواءً في العمل أو في الشارع أو في البيت.
وهؤلاء أيضاً يملكون، وبتميز، شخصيات متعددة (ليست فقط مزدوجة)، إحداها الشخصية الرمضانية، والبقية تتشكل أثناء السنة حسب المواسم والشعائر الدينية وحسب الوقت، حيث في الليل شخصية وفي النهار شخصية أخرى، وحسب المكان، حيث في البيت شخصية وفي المكتب شخصية ثانية ومع الأصدقاء شخصية ثالثة وخارج المملكة شخصية رابعة، وحسب من يتم التعامل معهم فتجدهم مع الأغنياء شخصية معينة ومع المسؤولين شخصية ثانية ومع العاديين شخصية ثالثة، وهم بهذا يملكون قدرات تمثيلية ومسرحية إبداعية لحد الاقتناع الشخصي، قبل إقناع الآخرين، بكذبتهم، مع تشتتهم وضياع شخصيتهم الحقيقية وتكبرهم وتمثيلهم على الله قبل الناس. ترى هل هذه ظاهرة صحية؟ وهل هي مقبولة من المجتمع؟ وما نسبة هؤلاء الممثلين في مجتمعنا؟ ومن تعرف وكم من هؤلاء في حياتك؟ ومثل هؤلاء هناك أمل في الله في تحسنهم وشفائهم متى ما أرادوا ذلك وعزموا عليه، ولكن ليعلموا أن الفرص محدودة في الوقت والعدد، مع عدم علمنا ولا علمهم بعددها ومدتها ومن يوجد لديه فرص ومن لا يوجد.
وهناك في المقابل لا الربانيون ولا الرمضانيون، إنهم المحرومون من رمضان وخيراته، وهم لا يتأثرون بحلول رمضان ولا يعيرونه أي اهتمام، فسلوكهم وتعاملاتهم وأخلاقهم لا تتغير في رمضان، فهي هي في رمضان وغير رمضان. ورغم أن الثبات في المبادئ والسلوك أياً كان شيء محمود بشكل عام، إلا أن التمسك بمبادئ وسلوكيات تتعارض مع القيم الإسلامية يمثل هدما وتدميرا لقيم المجتمع ككل وعائقاً في سبيل التقدم والتطور، وهؤلاء الرمضانيون يجب أن يدركوا أن "الله يمهل ولا يهمل".
أما جلسات ما بعد الإفطار وما بعد القيام الأول في سطح الحرم المكي، فكانت متعددة ومع مجموعة شباب من أبو ظبي، ودبي، وجازان، والرياض، وجدة، وإنجلترا، وتركيا، والجزائر، وليبيا، والمغرب، والعراق، وحتماً ودائماً مصر. فبينما الكل اتفق على غياب التسامح والابتسامة والتعاون والنظافة واللغة المشتركة وظهور نوع من الشحن النفسي والتزاحم غير المبرر بين زوار الحرم المكي، فقد كانت هناك قصة وحكاية لكل بلد وشاب، فالمهندس العراقي شكى ضياع الأمن وانتشار الجوع في العراق، معزياً أسباب ذلك لضياع القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية في المجتمع العراقي منذ الستينيات، وأما زميلنا من دبي فكان يتحدث بكل فخر عما تقدمه إمارة دبي من خدمات راقية لمواطنيها ومنها تقديم دعم مالي كبير لشباب وشابات الإمارات عند الزواج، مع توفير السكن المناسب، والوظيفة لكل إماراتي دائماً وأبداً مضمونة، وأما أخونا من جدة، فتحدث بمرارة عن معاناة أهل جدة الأحبة على مدى عقود مما يحدث في جدة من كوارث وآخرها ما حصل قبل تسعة أشهر جراء هطول بعض الأمطار، وكل هذا بسبب بعض النفوس المريضة، وأما ابن جازان فقد تحدث عن جدية ومهنية شباب جازان واستعدادهم للعمل في أي مجال ويراهن على أنهم الخيار الأفضل في توفير اليد العاملة في مدن المملكة، وأما الشقيق التركي فقد كان الأكثر اعتزازاً وإصراراً للتحدث باللغة التركية، وأما أبناء مصر فلم نر مداومة وإصراراً على زيارة الحرم مثلهم، وهم، بدون، منازع ملح وسكر الحرم، ويبدو أن هناك منافسة قادمة في هذا الاتجاه من إخوتنا من المغرب العربي.
لإحداث التغيير على مستوى الأفراد وحتى على مستوى الدول، لا بد من معرفة وتحليل واقع الحال أولاً ثم تحديد الأهداف المطلوب تحقيقها، وكيف، فإما أن تحددها وتحققها أنت وإما تترك الآخرين ليحددوها ويحققوها لك، ولكنها لن تكون أهدافك ولكنها أهدافهم لتبقى أنت مجرد أداة مؤقتة لتحقيقها.
وللحديث بقية...