دولة كرة القدم المُستقلة!

جِلدة منفوخة.. كروية الشكل.. تُركَلُ بالقدم، وتُرمى باليد، وتُضرب بالرأس، لكنها احتلت بموافقة الناس - وهي من اختراعهم - رقعة كبري من اهتمامهم، ومساحة عظمي من فضاء تفكيرهم، حتى تكونت لها أكبر إمبراطورية عرفها البشر، إمبراطورية ميدانها المشهود وجه البسيطة، وميدانها المطمور وجدان الملايين منهم، وسقفها ما يجنيه عشاقها من مُتعة أو إثارة أو حسرة جراء مشاهدتها!.

الكرة أوجدت لها عالماً بلا حدود، وصنعت لنفسها لغة فريدة مستقلة يتحدثها مريدوها بلا معاناة، واستطاعت بجدارة أن تقفز من فوق حواجز الجنس واللون واللغة..الخ، لتحقق الكرة ما عجزت عنه السياسة بأفرادها ومنظماتها.

لقد كونت الكرة عبر تاريخها دولة قررت أن تحكم نفسها بقوانينها الخاصة دون أن تتأثر كثيراً بما يدور على المسرح العالمي من أحداث وصراعات!.

وإذا اتجه العقل إلى رصد أسباب الجماهيرية الكاسحة لكرة القدم، فقد لا يقدر على حصرها، لأنها لُعبة ارتبطت بنفوس الناس، التي أكثر تقلباً من القدر إذا استجمع غليانه، ولكن يمكن إجمالها في الآتي:-

(1) في ضمير كل إنسان حاجة مُلحة للعمل الجماعي المُنظم المُتقن، من أجل تحقيق هدف مُعين.. وكرة القدم تُلبي تلك الحاجة باستخدام واستثمار طاقات ومهارات بدنية وذهنية لتحقيق الفوز.

(2) حاجة الإنسان إلى العدل والمساواة كحاجته إلى الماء والهواء، وكرة القدم تجسد ذلك على نحو عملي في ميدان المنافسة المشهودة، فلا فرق بين لاعب وآخر أو فريق وآخر إلا بالأداء وبذل العرق، ولا محاباة ولا مجاملة على حساب قانون اللعبة، إلا ما وقع نتيجة تقديرات فردية تختلف من شخص لآخر.

(3) الغموض الذي يلف نتائج المنافسة، وما يصاحبه من تشويق وإثارة ناشئة من الحالة نفسها، وما يدعمها ويقويها من إعلام لا يكف عن التعليق والتحليل والتنظير.

(4) منافسات الكرة طريق مشروع ومعترف به للتنفيس عن النفس وإطلاق انفعالاتها ومخزونها من الكبت والضيق في صورة هتاف أو تصفيق أو تشجيع أو تشنج أو هستيريا، وسواء كانت ذلك مقبولاً أو مرفوضاً فهو في النهاية فرصة لتفريغ شحنة الغضب بطريقة ما.

(5) مشاهدة كرة القدم بما تنطوي عليه المشاهدة من مفاجآت واضطرابات، تعُدُ سبيلاً لكسر الروتين اليومي، والخروج على المألوف المعتاد، الأمر الذي يجدد نشاط العقل والبدن، ويفسح مجالاً للتواصل والثرثرة حول ما جرى في فصول المشاهدة.

كثيراً ما أسأل نفسي في لحظات التعقل والهدوء هذا السؤال: ما الذي جعلني والملايين من الناس نتعلق إلى درجة العشق بجلدة معبأة بالهواء تركلها أقدام داخل مستطيل أخضر، رغم أنها من الناحية العملية لا تنفع من يشاهدها ولا تضره إلا بمقدار ما تحدثه من نشوة طارئة أو حزن مؤقت حالة فوز أو هزيمة الفريق محل التشجيع، إلا إذا كان التشجيع من أجل الكرة الجميلة فقط، وهذا لا يحدث غالباً ؟!.

ربما تكون الإجابة في أحد النقاط الخمس سالفة الذكر، إن كانت النية تتجه إلى إيجاد مبرر وجيه لحالة الولع المُفرطة بكرة القدم، لكن إنصاف الحقيقة يقتضي ذكر ظاهرة الإفراط في تشجيع كرة القدم، حتى تخطت حدود كونها مجرد لعبة تُمارس لتسعين دقيقة، لتكون أولوية قصوى لدى الكثيرين، وبسببها تتوقف أعمالاً لا يجب أن تتوقف، وتتقطع أوصالاً لا يجب أن تتقطع!.

وأخيراً، فهذه إحصائية ربما تترجم كل ما سبق ولكن بلغة الأرقام:-

- عدد من يمارسون كرة القدم = 250 مليون لاعب.

- عدد من يشجعون كرة القدم = 2.5 مليار مشجع تقريباً.

- عدد الدول المنضمة للاتحاد الدولي = 204 دولة.

- عدد الأندية = 305 ألف نادي.

- عدد الفرق = 1.55 مليون فريق.

- حجم الإنفاق على منظومة كرة القدم = 250 مليار دولار في العام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي