الرأسمالية بأبشع صورها
لا يخفى أن من أبرز سمات الرأسمالية الغربية أنها تزيد الغني غنى، وتزيد الفقير فقراً. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الفرق بين الربا الذي تمارسه البنوك الغربية والشرقية، الذي يجعل العميل مديناً حياً وميتاً، فيولد وهو مدين، ويعيش وهو مدين، ويموت وهو مدين!! ما الفرق بين ذلك الربا الجاهلي والمعاصر، وبين هذا الربا المقنن الذي تجريه بعض البنوك والمصارف باسم (التورق المنظم)؟! وما الفرق بين المواطن الذي ابتزه الغني أو البنك بالربا، وبين هذا المواطن الذي ابتزه المصرف أو البنك بالتورق المصرفي السيئ الصيت، حتى ركبته الديون وورثها صاغراً عن صاغر ؟!!
في الواقع إن الفرق بينهما كالفرق بين من يلغ في الحرام باسم الزنا، وبين من يقنن الزنا ويلغ فيه باسم المتعة!! ولا فرق، بل هذا الأخير أشد حرمة من الأول؛ لأنه استحل محارم الله بأدنى الحيل، وهي من أبرز صفات اليهود الذين حين حرمت عليهم الشحوم، أذابوها، ثم باعوها، فأكلوا ثمنها ! وحين حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت عمدوا إلى البحر فحفروا حوله الحياض، وشرّعوا منه إليها الأنهار، ثم فتحوا تلك الأنهار عشية الجمعة، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلم يقدروا على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها، فلما جاء يوم الأحد أخذوها، فأنكر الله ذلك عليهم بقوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين).
وهكذا الحال فيمن أكل الربا وأموال الناس بالباطل على سبيل المكر والخديعة والاحتيال، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل، فقال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل). وهذا بخلاف من وقع في الذنب وهو مقر بخطيئته، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالخطيئة، وبأنه مذنب عاص، مع انكسار قلبه من ذل المعصية، وازدرائه على نفسه، ورجائه لمغفرة ربه، وعد نفسه من المذنبين، فلعل ما يقوم بنفسه من هذه المعاني يفضي به إلى الخير، والإقلاع عن هذه المعصية.
وهنا يرد تساؤل عن التورق المنظم، ما هو؟ وما موقف العلماء منه قديماً وحديثاً؟ وما أثر هذه المعاملة وأشباهها في اقتصادنا المعاصر؟
والجواب: إن التورق المنظم هو أن يتولى البنك أو المصرف ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل، ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري، ثم يسلمه للمتورق. ثم إن البنك أو المصرف قد يكون مالكاً للسلعة ابتداء، وقد لا يكون مالكاً لها، فيسبقه مرابحة للآمر بالشراء. وبالنظر إلى واقع هذه المعاملة، نجد أنها غالباً ما تكون من العقود الصورية لا الحقيقية، حيث يقصد من ورائها دفع النقد لتحصيل نقد أكثر منه مؤجلاً، وأنها كما قال ابن عباس رضي الله عنه: (دراهم بدراهم بينهما حريرة!!) وهذا التورق المنظم ليس من العقود الحديثة، كما يظن البعض، بل جاء عن السلف بعض الآثار الدالة على وقوعه والنهي عنه، كما في مصنف عبد الرزاق (8/294) وابن أبي شيبة (7/275). ولهذا، ولأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم، لذا فقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في أواخر سنة (1424هـ) بتحريم التورق المنظم، وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية. وقد أفتى بموجب هذا القرار جمع كبير من علمائنا المعاصرين، بل ومن خبرائنا في مجال الاقتصاد الإسلامي، وصرحوا بأن هذا النوع من العقود قد نتج عنه تراجع للأهداف الحقيقية التي لأجلها أنشئت المصارف الإسلامية، وعلى رأس قائمتها دعم التنمية، والإسهام في النشاط الحقيقي للاقتصاد في البلد، وذلك من خلال المشاركة، الاستصناع، الإجارة، ونحوها من العقود التنموية الحقيقية، حتى تم اختزال ذلك كله في بيع النقد بالنقد باسم التورق، تحقيقاً للأرباح بأقل وقت ممكن، ودون مخاطرة أو مشقة، ولو كان ذلك على حساب ديننا، وأخلاقنا، واقتصادنا!! حتى أصبح المال دولة بين الأغنياء منا، ولذا أصبحوا يمارسون الرأسمالية في بلادنا بأبشع صورها!