عندما يكون المواطن سفيرا لبلاده ـ 3

أكتب الآن الحلقة الأخيرة عن جهود الأستاذ فهد المقيرن ومبادراته في المشاركة والحوار الحضاري في مختلف المؤتمرات والندوات، مجاهدا بالدفاع عن مجتمعه وقيمه، بالكلمة الحسنة والمنطق السليم، إذ لم تثنه أعماله التجارية الخاصة عن القيام بما يمليه عليه ضميره.
كنت وإياه ممن اجتمعوا بالرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عند زيارته الأخيرة للمملكة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فأبدى الأستاذ فهد –كعادته - ملكات فكرية ولغوية لافتة عند حواره مع الرئيس كارتر. وكان مما قاله : لقد كنت سيدي الرئيس رئيسا لبلادك واطلعت وعرفت ما يتيحه لك ذلك المنصب، ثم قمت تجوب العالم ورأيت بأم عينك مقدار البؤس والظلم الذي نعانيه في منطقتنا وفي فلسطين وفي العراق، فهل نطمع أن نجد ضمن أعمال مؤسستك الخيرية التي تجمع لها التبرعات من هنا وهناك، دورا في تسليط الضوء على هذه المآسي والمساعدة في حلها، وهل لك أن تنورنا بما يجب علينا عمله من ناحيتنا لدفع الظلم الواقع على منطقتنا، وكيف نعمل على تحسين التفاهم المشترك بيننا وبين الغرب.
ولأخينا فهد مواقف رائعة نجح فيها في تصحيح مفاهيم شائعة غير صحيحة بطريقة ذكية ومقنعة. فقد دعي في نيسان (أبريل) عام 2008 لإلقاء محاضرة في الجامعة الأمريكية في باريس عن السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وبعد أن تحدث عن تاريخ أمريكا في المنطقة، ولكي يحث الحضور على عدم تصديق كل ما يسمعونه أو يشاهدونه أو يقرأونه عن المنطقة، فقد سرد عليهم كيف أنه تلقى إيميلا يفيد بأن هناك كنيسة في التشيك مزينة بعظام وجماجم الآلاف المسلمين، وكان الإيميل مدعوما بالصور. ثم أخبرهم الأستاذ فهد بأنه شك في تلك الرواية، التي قد تدغدغ مشاعر البعض وتزرع بذور الكراهية وحب الانتقام، وخاصة أنه لم يسبق أن سمع عن هذه الكنيسة من قبل. فبين للحاضرين ضرورة التثبت من المعلومات إذ ليس لأحد عذر اليوم في قبول أفكار نمطية دون تمحيصها والتثبت من حقيقتها في ظل انفتاح العالم على المعلومات في عصر ثورة الاتصالات. وبعد بحث أخي فهد وتحققه عن أصل هذه الكنيسة، وجد أنها موجودة فعلا في مدينة سدلك في جمهورية التشيك، وأنها مزينة بعظام وجماجم، ولكنها لم تكن لمسلمين! وإنما جماجم موتى ذلك البلد الأوروبي. وقصتها أن رجل دين تشيكيا ذهب قبل قرون إلى الأرض المقدسة في فلسطين وجلب معه بعض ترابها، فتبارك به القوم ونثروه على مقبرتهم، ثم أخذ الناس يدفنون موتاهم في المقبرة نفسها تبركا، وأصبحت المقبرة المفضلة لجميع المدن والقرى المجاورة حتى اكتظت. فقرر أهل القرية إقامة كنيسة مكان المقبرة، فذهلوا من كمية العظام والجماجم الكثيرة، فاقترح أحد كهنتهم تزيين حوائط الكنيسة بها.
وكذلك عندما أراد الأستاذ فهد أن يبين للطلبة وأساتذتهم عدم جواز الإساءة إلى نبينا، عليه الصلاة والسلام، كما حدث من الدنمارك، فإنه روى لهم وقرأ عليهم إيميلا أرسله له أحد أصدقائه الألمان وفيه استهزاء وتهكم في سيدنا عيسى عليه السلام، فكتب الأستاذ فهد لصديقه بطريقة مهذبة، قائلا له إنه يربأ بنفسه أن يقبل أو أن يقرأ ما يسيء للرسل والأنبياء، وقد ترك هذا التصرف أثرا إيجابيا بالغا عند صديقه الألماني، إذ اعترف له قائلا إنه احتقر نفسه وأقر بأن الإنسان لا ينبغي عليه الاستهزاء بالأديان والأنبياء!
والأستاذ فهد من الذين يدعون سنويا إلى المنتدى الذي تقيمه كلية فليتش للعلاقات الدولية والدبلوماسية في قرية تالوا الفرنسية المجاورة لمدينة جنيف السويسرية. وفي عام 2007م كان موضوع المنتدى ''مستقبل نظام الحد من انتشار الأسلحة النووية''، وكان المتحدث الرئيس فيه هو بالطبع الدكتور محمد البرادعي. وبعد الظهر تعاقب الحضور للتعليق على هذا الموضوع. فقام الأستاذ فهد بمداخلة مع الدكتور مايكل جلنن أستاذ العلاقات الدولية في بوسطن، يذّكره فيها بسكوت الغرب عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي وعدم توقيعها على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي. ثم ذّكر الحضور أن سياسة الأمن القومي الأمريكي التي اعتمدها الرئيس بوش والمحافظين الجدد في عهده والتي أعطت لأمريكا الحق في الضرب الاستباقي لكل من تراه يهدد أمنها القومي، دفعت وشجعت الدول الأخرى خاصة تلك التي (ذكرها بوش في خطاباته بأنها محور الشر) للسعي لامتلاك السلاح النووي. هنا قاطع أحد الأمريكيين الأستاذ فهد قائلا: إن الغرب لا يعرف ماذا يريد العرب من إسرائيل، وأن العرب أنفسهم غير متفقين فيما بينهم. فما كان من الأستاذ فهد إلا أن انبرى مفندا هذا الادعاء بأنه غير صحيح علميا، ومضيفا أن الملك عبد الله بن عبد العزيز قدم مبادرة شاملة للسلام عام 2002م في بيروت، وتمت المصادقة عليها من جميع الدول العربية بما فيها السلطة الفلسطينية، حتى أن الصحافي الأمريكي توماس فريدمان تكلم حينها عن هذه المبادرة كسبق صحافي في جريدة الـ ''نيويورك تايمز''. وبعد ذلك قام الأستاذ محمد البرادعي بشكر الأستاذ فهد بحرارة على مداخلته.
هذا غيض من فيض من المواقف التي وفق لها أخي فهد المقيرن، والتي يصعب – كما ترون – حصرها، لكني أختم سلسلة هذه المقالات بالإشارة إلى مقدار ديناميكية هذا الرجل ونشاطه، إذ إنه حتى إذا نزل في فندق فإنه يحرص على التعرف على مديريه والتواصل معهم وتنبيههم على بعض الملاحظات. ومن ذلك أن أقنع صديقه السويسري كريستوف شنايدر مدير عام فندق القصر، وإدارة برج العرب بتأمين حافلة لنقل النزلاء المسلمين لأقرب جامع، أسوة بخدمات توصيل النزلاء للأسواق ومناطق الجذب المختلفة. كما أنه سعى لدى بعض الفنادق الأوروبية لتوضيح وجهة الكعبة وتأمين سجادة ومصحف لمن يرغب من نزلائهم. وقد توصلت بعض الفنادق لفكرة جيدة فقد وضعوا بطاقة ملصقة بها بوصلة، مكتوب عليها أيضا توافر كل الكتب المقدسة لدى إدارة الفندق لمن يرغب فيها.
إني أرجو أن يكون ما جاء في هذه المقالات خير حافز لنا كي نتجاوز شعورنا بالإحباط، وألا يحتقرن أحد منا شيئا من الجهد مهما صغر يرى أنه يقوى على عمله خدمة لبلاده ودينه. كما أرجو أن نحسن اختيار المتحدثين عن قضايانا، وكذلك المرافقين لضيوفنا، فقد رأيت أثناء لقائنا الرئيس كارتر شابا سعوديا من رجال الأمن يلبس اللباس المدني يمنطق بمسدس تحت إبطه ويبدو عليه الاهتمام بملبسه أكثر من وظيفته، ولم يحسن اختيار الكلمة الإنجليزية المناسبة عند توجيه مرافقي كارتر وهم يهمون بالخروج من مكان اللقاء. علينا أن نتجاوز مرحلة تقديم المظهر على الجوهر، ومرحلة الاهتمام بالبروتوكولات والتشريفات أكثر من مهمة الاستعداد الفكري لمثل هذه اللقاءات. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي