هل إدراج البورصة طريقٌ لحوكمةِ البيوت التجارية؟
تُشجع بورصات الخليج إدراج الشركات العائلية لتعزيز النمو الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص، وتشير دراسةٌ إلى أن الشركات العائلية تشكل 33% من السوق السعودية، وتستحوذ على 92% من الطروحات الأولية في السوق الموازية "نمو". وقد ارتفعت القيمة السوقية لـــ63% منها بعد الإدراج، بينما انخفضت قيمة 37%. ويُظهر الإدراج كيف يعزز تنويع التمويل ويسهّل التخارج، لكنه يكشف أيضًا فجوات في الحوكمة الإستراتيجية، ما قد يؤثر في استدامة الثروة العائلية، ويزيد احتمالية النزاعات أو تقلبات السوق أو التداول دون المستوى المتوقع.
تأسست الشركات العائلية الكبرى في الخليج منذ السبعينات في ظروفٍ اقتصاديةٍ خاصةٍ، ونماذج عمل ترتكز على مؤسسيها، ولا تزال مستويات نضج الحوكمة متفاوتة بينها. وتدرك الاقتصادات الخليجية أنَّ بعض هذه الشركات قد تواجه تحديات بعد الجيل الثالث، لذا يُنظر إلى الإدراج كأداةٍ محتملةٍ لضمان استمراريتها عبر حوكمةٍ رشيدة تؤمّن انتقال الملكية بسلاسة وتتيح القدرة على النمو. بالمقابل، بدأت البيوت التجارية الغربية شركاتها العائلية منذ القرن الثامن عشر، وقد شكَّلت الأزمات الاقتصادية والحروب والتحولات الصناعية خبرتها في التحول المؤسسي، وتفصيلٍ لأنظمةِ حوكمةٍ وهياكل قانونية مرنة، ما كوَّن أرشيفاً موثقاً للتجارب الاقتصادية والقانونية يضمن استمرارية الشركات عبر أجيال.
يرصد مؤشر Global Family Business Index أكبر 500 شركة عائلية عالميًا وفق معايير تشمل السيطرة العائلية (50% للشركات الخاصة و32% للمدرجة)، والعمر المؤسسي للجيل الثاني أو أكثر، ووجود أكثر من عضو عائلي في القيادة. ويلاحظ غياب ملحوظ للشركات العربية والخليجية عن المؤشر، ربما لعدم استيفائها بعض المعايير مثل الشفافية المالية أو انتقال الملكية للأجيال التالية. ويشير المؤشر إلى أن نحو نصف الشركات العائلية فضّلت عدم الإدراج، بينما انتظرت أخرى سنوات طويلة حتى نضجت ممارسات الحوكمة لديها وتأسست هيكلية قانونية مناسبة. كما تتجنب شركات مثل إيكيا ومارس وكارجيل الإدراج للحفاظ على السرية والسيطرة، ما يظهر تفاوت الرؤى واختلاف نماذج الحوكمة الإستراتيجية بين الشركات العائلية.
تُظهر التجربة أن الإدراج ليس مجرد فرصة للتمويل والنمو، بل قد يفرض ضغوطًا إضافية على خصوصية الشركات العائلية ويزيد من الرقابة على أعمالها. فالمعاملات مع أطراف ذات علاقة تصبح تحت مجهر المستثمرين، ودخول مساهمين خارجيين قد يؤدي أحيانًا إلى خلافات حول الأرباح وسياسات التمويل والنمو، بينما قد تضطر العائلة للتنازل عن جزء من ملكيتها، ما قد يؤثر في قدرتها على اتخاذ القرارات الإستراتيجية. كما يسلط الإفصاح الإلزامي الضوء الإعلامي على أيِّ نزاعٍ داخلي ونشر مستجدات الفصل فيها، ويقيّد حرية إبرام بعض الصفقات والعقود العائلية وفق نماذج عملها، لتضاف إليها تعقيدات المراجعة المستمرة. وفيما يستحق أداء الشركات العائلية بعد الإدراج دراسة معمقة، فقد سجلت بعض الحالات إفلاسًا أو شطبًا أو تراجعًا في قيمة التداول، ما قد يظهر تحديات في الثقة أو الأداء المالي أو عوامل السوق العامة، وهو ما يبرز فجوات محتملة في الحوكمة الإستراتيجية وتأثيرها في استدامة الثروة العائلية.
تتجاوز حوكمة الشركات العائلية مجرد "قائمة تحقق"؛ لتصبح مقياسًا ملموسًا لنضج الإدارة المؤسسية والفصل بين الملكية والإدارة وضمان كفاءة التشغيل واستمرارية الأجيال. إذْ تمر الشركات عادةً بـ5 مراحل، بدءًا من الحوكمة غير الرسمية، مرورًا بالحوكمة شبه الرسمية التي تعتمد لوائح داخلية ومجالس عائلية لتوضيح الأدوار واحتواء الخلافات، ثم الحوكمة المؤسسية الكاملة مع مجالس إدارة مستقلة وتطبيق معايير الشفافية والإفصاح، وصولًا إلى الحوكمة الإستراتيجية حيث تُصبح الإدارة أداة لتوليد ميزة تنافسية مستدامة. يعتمد النجاح على قدرة العائلة على حماية مصالحها، مع الحفاظ على السيطرة وفتح المجال للكفاءات والتمويل الخارجي، ما يحوّل الإدارة من داخلية عاطفية إلى منظومة مؤسسية احترافية ومستدامة.
أظهرت التجربة الغربية أدوات هيكلية متقدمةً لتحقيق التوازن بين التمويل والسيطرة. في ألمانيا، استخدمت العائلات الوقف أو الهياكل القابضة مثل Bosch وBertelsmann، وفي بريطانيا القابضات الخاصة والصناديق الخيرية لضمان التحكم وتقليل النزاعات مثل Weston وSainsbury، بينما اعتمدت الولايات المتحدة الترستات والأسهم المزدوجة ومكاتب العائلة مثل Walton وFord للحفاظ على سيطرة طويلة المدى. وفي فرنسا لجأت العائلات الكبرى مثل Arnault/LVMH إلى هياكل Agache وfiducie كآليات حوكمة معقدة تحمي النفوذ رغم الإدراج الجزئي.
يتضح أن الإدراج ليس العصا السحرية لمعالجة تحديات حوكمة البيوت التجارية، فالإدراجُ يفرض ضغطًا خارجيًا على الإصلاح ويتطلب نضجًا مؤسسيًا وممارسةً دقيقةً. إنَّه اختبارُ حقيقيٌ للانتقال من روح الورثة إلى جسد الحوكمة، ويستدعي معالجةَ النزاعات الداخلية وترتيب البيت العائلي قبل وضع أيّ مساحيق حوكمةٍ تجميلة، والدفاتر العائلية ستكون تحت مجهر السوق والمستثمرين، ويفرض صرامة في الشفافية والمساءلة، حتى لو تطلب ذلك تقليص السيطرة العائلية. فالبورصة ليست ميدانًا للتعلم المجاني، بل مختبر لنضج مستوى حوكمة الشركات العائلية، التي إمِّا يصنعها الإدراج أو يضع تاريخها في الأدراج. فهل كل البيوت التجارية مستعدةٌ لتغيير قواعد لعبتها الداخلية؟
مستشار قانوني