البحوث العامة رأس المال الحقيقي في سباق المستقبل

لم يعد بناء المصانع والجسور كافيًا لضمان موقع اقتصادي متقدم في عالم يتغير بسرعة. هذه البنى المادية تمنح ميزة مؤقتة، لكنها لا تصمد طويلًا أمام التحولات التكنولوجية المتسارعة. أما الاستثمار في البحوث العامة، أي تلك التي تمولها الدولة وتُجرى في الجامعات والمختبرات الوطنية، فهو الاستثمار الذي يحوّل المعرفة إلى قوة اقتصادية وإستراتيجية ويمنح الدول قدرة على المنافسة المستدامة.
الأرقام تكشف حجم الأثر. ففي الولايات المتحدة، أثبتت الدراسات أن كل دولار يُستثمر في البحث العام يولّد ما بين 4 و27 دولارًا من المنافع الاقتصادية والاجتماعية. وفي عام واحد فقط، أسهمت المعاهد الوطنية للصحة في خلق مئات الآلاف من الوظائف وضخ عشرات المليارات في الاقتصاد. هذه المعطيات تبرهن أن البحوث العامة استثمار مباشر في النمو والأمن الصحي والقدرة التكنولوجية.
وعند النظر إلى التجارب الدولية، يتضح أن لكل دولة نهجها الخاص، لكن الهدف مشترك وهو تحويل البحث إلى رافعة اقتصادية. ألمانيا اعتمدت معادلة مزدوجة، فأنشأت معاهد ماكس بلانك للأبحاث الأساسية الطويلة الأمد، ومعاهد فراونهوفر للأبحاث التطبيقية المرتبطة بالصناعة. الولايات المتحدة بدورها وزعت أدوارها بين مختبرات وزارة الطاقة التي تقود بحوثًا إستراتيجية، وبين الجامعات التي تنتج معرفة واسعة تتدفق إلى الاقتصاد. بريطانيا جعلت من الجامعات ومجالس البحث مركزًا رئيسيًا، لكنها في الوقت ذاته أنشأت مختبرات حكومية محورية أسهمت في تطوير الإنترنت والأبحاث الدفاعية. أما كوريا الجنوبية فقد ركّزت على الإنسان قبل الحجر، فرفعت عدد الباحثين إلى مستويات قياسية، وربطت البحث العلمي مباشرة بمسار نهضتها الصناعية والتكنولوجية.
هذه النماذج المختلفة تكشف عن نمط متكرر البحوث العامة تنقسم عادة إلى داخلية تُجرى في مختبرات الدولة، وخارجية تُموّلها الحكومات وتُنفّذ عبر الجامعات أو بالشراكة مع القطاع الخاص. البحوث الداخلية، رغم بطئها وكلفتها، تنتج حلولًا إستراتيجية بعيدة المدى مثل تطوير اللقاحات والتقنيات الدفاعية. أما البحوث الخارجية فتوسع قاعدة المعرفة وتخلق بيئة خصبة للإبداع العلمي والنشر الأكاديمي. وحين يجتمع النمطان، كما في التجربة الأمريكية، يتحقق التوازن المطلوب بين إنتاج الأفكار وتحويلها إلى حلول عملية.
ويعد الأهداف التي تخدمها البحوث العامة عنصر مهم في نجاح التجارب والأهداف بشكل عام متعددة. فهي وسيلة لتعزيز الصحة العامة عبر تطوير الأدوية واللقاحات، وأداة لحماية الأمن الوطني عبر أبحاث الفضاء والدفاع السيبراني، كما أنها رافعة للتنمية المستدامة عبر مواجهة التغير المناخي والتحول نحو الطاقة النظيفة. الاتحاد الأوروبي يستثمر مليارات في برنامج Horizon Europe لدعم بحوث الذكاء الاصطناعي والطاقة. اليابان جعلت الروبوتات والتقنيات الذكية محور سيادتها التكنولوجية. أما كوريا الجنوبية فقد حولت البحث العلمي إلى جسر اقتصادي وجيوسياسي يربطها بالأسواق العالمية.
كما لوضوح الأهداف أهمية في نجاح البحوث فإن العنصر البشري هو الفيصل في ذلك. فالمختبرات لا تصنع فارقًا من دون عقول مبدعة. الولايات المتحدة جذبت آلاف الباحثين من مختلف أنحاء العالم عبر برامج المنح مثل "فولبرايت". ألمانيا دعمت العلماء عبر برامج DAAD التي فتحت المجال للتبادل الأكاديمي واسع النطاق. كوريا الجنوبية رفعت عدد الباحثين لكل مليون نسمة إلى مستويات جعلتها من أكثر الدول اعتمادًا على المعرفة في نهضتها. فالاستثمار في الإنسان أفرز براءات اختراع، شركات ناشئة، وتدفقات استثمارية عززت موقع تلك الدول في الاقتصاد العالمي.
لذا فإن البحوث العامة ليست مجرد بند في ميزانية الدولة، بل استثمار إستراتيجي يحدد موقعها في سباق المستقبل. الدول التي تبني مختبراتها، وتدعم جامعاتها، وتستثمر في باحثيها، تضمن لنفسها دورًا فاعلًا في تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي. أما من يكتفي بالبنية التحتية المادية وحدها، فإنه يظل على الهامش، يستهلك ما ينتجه الآخرون بدل أن يكون شريكًا في صناعته.

مستشار في الشؤون الدولية والسياسات العالمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي