منظمة التجارة ومنافع الشعوب
كتبت هذا المقال بعد أن حزمت حقيبتي في طريقي إلى الصين للمشاركة في منتدى لرجال الأعمال سيعقد في بكين يومي الثلاثاء والأربعاء (15 ـ 16) من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري. سيكون المحور الرئيس للمنتدى "المنافع التي تجنيها الشعوب عند إزالة الحواجز التجارية", وهو أيضاً موضوع جلسة النقاش التي سأتحدث فيها ـ بإذن الله ـ كما سيتحدث فيها أيضاً مايك مور رئيس وزراء نيوزيلندا السابق والمدير العام سابقاً لمنظمة التجارة العالمية. ومن المتوقع أن يبلغ عدد المشاركين في المنتدى نحو 800 شخص من قادة قطاع الأعمال في الصين ودول أخرى.
سأحدّث الحاضرين هناك عن دور التجارة في تاريخ العرب قبل بزوغ فجر الإسلام وكيف تنامى هذا الدور في القرون الأولى من الحضارة الإسلامية ما دعا شعوباً بأكملها في شرق آسيا أن تُـقبل على الدعوة الجديدة التي حملها إليهم تجار من الجزيرة العربية. كان الرسول, عليه الصلاة والسلام, في بداية حياته تاجراً أميناً وكان عدد من صحابته, رضوان الله عليهم, من بين الأسماء اللامعة في عالم التجارة في ذلك الزمان، ولم تكن غريبة لديهم القيم التي يُطلق عليها اليوم في منظمة التجارة العالمية اسم (ميثاق العمل) Code of Conduct إذ كانت تلك فطرتهم وجزءاً من نسيجهم ومحاسن شريعتهم.
لكن ماذا عن المستقبل وقد استكملت المملكة العربية السعودية يوم الجمعة الماضية مراسم الإجراء الأخير للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية؟ بالطبع سنتحدث عن التحديات التي تترتب على إزالة الحواجز التجارية وفتح باب المنافسة على مصراعيه مع أطراف متعددة في الوقت الذي كانت فيه المنافسة إلى عهد قريب تقتصر على طرف أو اثنين فقط. إن مواجهة هذه التحديات تتطلب بالضرورة توافر عنصرين مهمين: أولهما وجود تجهيزات أساسية ملائمة كالموانئ الصناعية والتجارية، الاتصالات، النقل، الطاقة، المياه، والصحة، وثانيهما, استكمال البنية القانونية من أنظمة ولوائح تحمي حقوق جميع الأطراف سواء كانت منتجة أو مستهلكةً أم كانت مواطنين أو أجانب.
إن توافر طاقات كافية من التجهيزات الأساسية وبأسعار مناسبة أمر ضروري وجيد بلا شك، لكن ذلك لا يكفي لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة بنجاح إن لم يكن مستوى الخدمات التي تقدمها هذه التجهيزات على درجة عالية من الكفاية وهذا الهدف بدوره يدعو إلى فتح باب المنافسة في مجال الخدمات أمام القطاع الخاص وتخلي الدولة تدريجياً عن إدارة وتشغيل تلك التجهيزات والمرافق.
وكذلك الحال بالنسبة للأنظمة والقوانين لا بد من تفعيلها بتدريب القائمين على تنفيذها من جهة وعلى كيفية التعامل معها من قبل رجال الأعمال, من جهة أخرى كي يدركوا الفرص المتاحة أمامهم والخطوط أو الحدود التي لا يسمح بتعديها أو تجاوزها في طبوغرافية التضاريس الجديدة عليهم.
إن المشوار الذي قطعته المملكة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية تطلب الكثير من التحضير والمفاوضات المضنية مع عدد كبير من أعضاء المنظمة السابقين. لذا سأحدّث المشاركين في الندوة عن الجهود الكبيرة التي بذلها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في كل خطوة من خطوات هذا المشوار لتهيئة اقتصاد المملكة للمرحلة المقبلة. كما سأحدثهم كشاهد عن الدور الذي اضطلع به الملك في وضع أسس برنامج التخصيص في المملكة إذ كانت الانطلاقة الأولى للبرنامج في قطاع الموانئ, حين أُسندت جميع الخدمات من تشغيل وصيانة واستثمارات جديدة للقطاع الخاص لإدارتها بأسلوب تجاري، وكان محور البرنامج يرتكز على مبدأ المنافسة العامة في العطاءات، ثم المنافسة في مرحلة تقديم الخدمة حيث لم يسمح لأي مستثمر بأكثر من فرصة في الميناء الواحد لئلا ينتقل الاحتكار من القطاع العام إلى القطاع الخاص على حساب المواطن، ثم تلى ذلك دور قطاع الاتصالات في التخصيص وفتح باب المنافسة. وقد تحقق لهذين القطاعين الكثير من المنافع تمثلت في ارتفاع الإنتاجية وخفض التكلفة، وزيادة الاستثمارات.
كما سأتناول في حديثي للمشاركين في المنتدى جهود الملك في تأسيس المجلس الاقتصادي الأعلى والأنظمة والإصلاحات التي تبناها المجلس برئاسته لإدارة الاقتصاد الوطني وفق معايير من الشفافية والإفصاح تتناغم مع ما هو متعارف عليه في الأوساط الدولية الأمر الذي أكسب المملكة ولأول مرة في تاريخها تصنيفات مالية وائتمانية عالية من مؤسسات عالمية متخصصة ومحايدة. وفي هذا السياق سأذكر لهم نظام الضريبة، ونظام السوق المالية، ونظام حماية الحقوق الفكرية كنماذج للأربعين نظاماً ونيف التي تم تحديثها ومراجعتها في إطار التحضير للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
بلا شك إن اقتصادنا الوطني مقبل على مرحلة جديدة تحمل في طياتها الكثير من الفرص والتحديات في آن واحد، هذه المرحلة تتطلب شحذ الهمم وترتيب الصفوف وهي مهمة سينجح في قيادتها بعون الله تعالى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كي تواصل هذه الأمة مسيرتها نحو المزيد من المجد والعطاء.