سوق عكاظ والنظرة السعودية المجددة

سوق عكاظ تجربة عربية عريقة تعود إلى مئات السنين عندما كان يجتمع العرب قبل الإسلام في أيام معدودة ومحددة لتدارس أوضاعهم السياسية والاجتماعية والثقافية والتجارية وإن كانت الثقافة في بعدها الأدبي الشعري هي الطاغية على المشهد والحدث إلا أن لقاء عكاظ كان تظاهرة عربية تعكس مدى حرص العرب على تأصيل ثقافة الحوار والنقاش وتبادل الأفكار والتأكيد على معاني مكارم الأخلاق, وتبرز كل تلك الممارسات من قصائد للشعر والنثر التي حملتها لنا كتب التاريخ عندما كان يجتمع كبار شعراء العرب لهذا الغرض ومن تلك المعاني النبيلة العظيمة للثقافة والفكر العربي جاء قول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
الشعر والنثر وما يحملانه من معان كريمة وقيم إنسانية عظيمة, وكذلك الأبعاد الأخرى الإيجابية للمناشط التي كان يرعاها سوق عكاظ خلال فترة الأشهر الحرم جعلت الاهتمام به وامتداده التاريخي ضرورة لهذه المرحلة التي نعيشها خصوصا مع ما نعانيه من فقد القيم والأخلاق العربية النبيلة التي بعث المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإتمامها, وهذه المرحلة الحالية من الاهتمام تأكيد على تجديد الاهتمام بالمكارم النبيلة للمجتمع العربي المسلم في هذا الزمن المتحول والمقاد نحو تفسخ الأخلاق وفقد القدرة على وجود القدوة .
شعوب العالم تبحث في تاريخها عن الإنجازات لإحيائها وإبرازها للعالم للتأكيد على عمق حضاراتهم حتى الشعوب التي لا تملك مثل ذلك العمق التاريخي الحضاري تحاول أن تجسد شيئا من الرمزية له وذلك لجعل الأجيال الحضارية اليوم تتشبث بتاريخها وانتمائها الوطني ونحن في المملكة مهبط الحضارات وملتقى شعوب الأرض نملك من الإرث الحضاري الشيء الكثير الذي يمكن أن نقدمه للعالم لنقول لهم إن أجدادنا ومنذ مئات السنين على هذه الأرض المباركة كانوا هم السباقين إلى إيجاد ملتقى سنوي يفوق دور هيئات وملتقيات اليوم ومنتدياتها مثل دافس والأمم المتحدة والبنك الدولي والجامعة العربية ومجلس التعاون وغيرها من الهيئات والمنتديات التي تعقد اليوم لتدارس أوضاع شعوب الأرض وحكوماتها واحتياجاتهم وتحقيق مصالحهم, لأن سوق عكاظ بكل مكوناته ونشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يمثل كل المناشط التي يعيشها العالم اليوم.
إن العودة لسوق عكاظ اليوم تأكيد على الاهتمام السعودي بتأصيل المناشط ذات الأبعاد الإيجابية لصالح المجتمعات العالمية, وكما نعرف جميعا أن سوق عكاظ في تاريخه القديم لم يكن سوقا للبغي والفساد والمجون وبيع الذات أو الغير  ولهذا جاءت العودة له لاستثمار بعده التاريخي وسمعته العالمية وانسجامه مع التوجهات الخيرة لخادم الحرمين الشريفين في دعوة للحوار والتقاء الحضارات والأديان وبعث رسالة ذات مضمون عظيم هي أن المجتمع السعودي مجتمع يملك كل مقومات الشعوب المتحضرة ذات التاريخ المكاني والثقافي والإنساني العميق ولعل في برامج ومناشط سوق عكاظ اليوم في رؤيته الجديدة ما يؤكد ذلك الاهتمام بالبعد الحضاري الإنساني الجميل والدعوة لإحياء مكارم الأخلاق في كل شؤون ومناحي الحياة الكريمة ولعل شعار هذا العام المؤكد أن سوق عكاظ حدث ثقافي يعنى بالحياة كملتقى وليس كما يعتقد البعض ممن يخافون كل جديد, أن يكون سوق عكاظ هو إحياء للجاهلية وثقافتها أو أنه إساءة للإسلام للأسف الشديد .
إن ثقافة الخوف من كل جديد مهما كان ومهما كان من يقف خلفه ثقافة يجب التخلص منها ومن تأثير أصحابها ممن يقفون ضد كل تطوير وتجديد في ثقافة المجتمع وسلوكياته وفي الغالب أن ذلك الخوف يأتي من الاعتقاد الخاطئ أن كل جديد أو تجديد لا يحمل معه إلا الشر للمجتمع كما أن هناك فئة تخاف على مصالحها الشخصية الذاتية من كل تطوير وتجديد على أساس أن مثل هذا التطوير يضعف هيمنتهم وسيطرتهم على المجتمع وثقافته ومعطياته ولعل التجارب التي مرت وتمر بها المملكة العربية السعودية تؤكد أن كل تطوير يحمل معه كل خير وأن كل محاربة لذلك التطوير هي قتل للمجتمع وتأخيره ودفعه للفساد من خلال التغيير مع التغير العالمي دون وجود الرؤية والتوجيه المحلي, فكل منع للتطوير هو دفع للتخلف وهو ما أدى ويؤدي إلى إيجاد مجتمع ذي وجوه كثيرة تتغير بتغيير المكان والمجتمع وهذا ما جعل أبناءنا من الجنسين يعيشون اليوم حياة مزدوجة مؤلمة لما يرونه من  نفاق اجتماعي داخل المسكن وخارجه.
ثقافة الخوف من كل جديد ثقافة أثبتت أنها ثقافة غير حقيقية فكل ما تم الأخذ به من تطوير جاءت نتائجه - ولله الحمد - متميزة ولعل آخرها مبادرة خادم الحرمين الشريفين حول الحوار الحضاري وكيف واجه هذا التوجه الخير منه - يحفظه الله - بتحفظ أصحاب ثقافة الخوف واعتقادهم أن مثل هذا الحوار سيضعف الإسلام والمسلمين, ولكن - ولله الحمد - جاءت النتائج مخيبة لاعتقادهم الخائف وأصبح الحوار هدفا عالميا رعته الأمم المتحدة ودفع بالمملكة لمصاف الدول الراعية للسلام والمهتمة بالإنسانية, ونحن نعرف تأثير ذلك في صورة الإسلام والمسلمين الإيجابية.
إن رحلة سوق عكاظ في صورتها الجديدة رحلة تستحق كل الدعم والرعاية لتقديم نموذج جديد من العمق التاريخي الحضاري للثقافة العربية الإسلامية وحرص القيادة السعودية على تأصيل ثقافة مكارم الأخلاق وإبرازها للعالم أجمع.
وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء, عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي