هشاشة النمو الاقتصادي العالمي

ما كاد العالم يخرج من أزمة كورونا ويتعامل مع آثارها حتى بدأت حرب أوكرانيا ونتائجها تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي. وكانت تطلعات النمو الاقتصادي العالمي متفائلة مع انتشار حملات التطعيم ضد كورونا العام الماضي. وارتفعت آمال المختصين بتعاف قوي خلال العام الماضي واستمرار النمو الاقتصادي الجيد هذا العام. وبعد نشوب الحرب الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية والمعادن وتراجع إمدادات عديد من المدخلات المهمة كالشرائح الإلكترونية والأسمدة، بدأت التطلعات الاقتصادية تميل إلى التشاؤم، وغدا البعض يتخوف من تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي إلى مستويات هشة وزيادة معدلات التضخم. وخفضت معظم التطلعات الاقتصادية توقعاتها السابقة للنمو الاقتصادي العالمي إلى مستويات منخفضة. وقد حذر البنك الدولي أخيرا من ارتفاع مخاطر الركود التضخمي أو الركود المصحوب بالتضخم.
توقع البنك الدولي في بداية العام الحالي أن يصل معدل النمو الاقتصادي العالمي إلى 4.1 في المائة 2022، ولكنه عاد أخيرا وخفض توقعاته إلى 2.9 في المائة. ويقل هذا المعدل كثيرا عن نظيره العام الماضي البالغ 5.7 في المائة. وستكون معدلات النمو في الدول المتقدمة أقل من هذا المعدل بقليل، أما الدول النامية بشكل إجمالي فستسجل معدلا أعلى بقليل. ولا يقتصر تراجع تطلعات نمو النشاط الاقتصادي العالمي على هذا العام بل يمتد للعامين القادمين، اللذين سيسجلان معدلات نمو قريبة من المعدل الحالي. ويأتي تراجع التطلعات بشكل طبيعي نتيجة للآثار السلبية التي خلفتها أزمة كورونا والحرب الأوكرانية، التي عطلت نسبا لا يستهان بها من الأنشطة الاقتصادية وتدفقات الاستثمار والتجارة العالمية.
ستتراجع معدلات النمو الاقتصادي في معظم دول العالم، ولكن ستظهر بشكل أقوى في بعضها. ومن المتوقع أن تعاني دول عديدة ركودا اقتصاديا وانخفاضا ملموسا في معدلات النمو الاقتصادي. وترجح بعض المصادر انخفاض معدلات الناتج المحلي للفرد في
الدول النامية بخمس نقاط مئوية مقارنة بنظيراتها قبل الجائحة. وسيولد هذا الانخفاض كثيرا من الآثار السلبية على معيشة السكان، ما سيرفع مخاطر القلاقل السياسية وعدم الاستقرار في عدد من البلدان. وما يحدث في دولة مثل سريلانكا مثال على آثار التراجع الاقتصادي العالمي وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الغذاء. وستعاني عديد من البلدان منخفضة الدخل من معضلات حقيقية في توفير قدر كاف من الغذاء لسكانها، وذلك لتراجع قدراتها في دفع تكاليف الاستيراد العالية.
تواجه بعض الدول المتقدمة، خصوصا الأوروبية مخاطر مرتفعة بانقطاع جزئي لإمدادات الطاقة، ما يهدد نموها الاقتصادي. وترتفع مخاطر الركود مع ارتفاع نسب الاعتماد على صادرات الطاقة الروسية، ويأتي الاقتصاد الألماني وهو أقوى اقتصاد أوروبي في مقدمة الدول التي قد تدخل في ركود اقتصادي. ونظرا لأهمية القارة الأوروبية للتجارة العالمية والاستثمار، فإن الدول المرتبطة بها والقريبة منها ستتأثر أيضا بتراجع النشاط الاقتصادي الأوروبي. وهذا يفسر إلى حد كبير جزءا من تراجع معدلات اليورو إلى مستويات قريبة وربما أقل من الدولار في الأشهر المقبلة. ستسجل أعلى معدلات التراجع الاقتصادي في أوكرانيا وسينكمش الاقتصاد الروسي، بسبب العقوبات الاقتصادية، والذي سيؤثر بدوره في معدلات النمو الاقتصادي في دول آسيا الوسطى.
تجبر معدلات التضخم المرتفعة الدول على اتخاذ سياسات نقدية ومالية متشددة، ما يخفض قدراتها على تحفيز النشاط الاقتصادي. ويبدو أن هناك تشابها كبيرا بين التضخم الحاصل هذه الأيام وتضخم سبعينيات القرن الماضي. ويأتي جزء كبير من التضخم الحالي، بسبب صدمة العرض الناتجة عن ارتفاع أسعار الوقود والغذاء وبعض المدخلات الأساسية ومعضلات شبكات التوريد. وقد حدث تضخم السبعينيات بشكل أساسي نتيجة لصدمة العرض، واستمر عدة أعوام وتم كبحه برفع معدلات الفائدة وفرملة الاقتصادات العالمية الكبرى. وستعود المصارف المركزية - الأكثر خبرة ومهارة واستقلالا من السابق - إلى تشديد السياسات النقدية مجددا للتصدي لمعضلة التضخم.
بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي وعدد من المصارف المركزية الكبرى برفع معدلات الفائدة وخفض السيولة، وستتواصل هذه السياسات حتى تبدأ مؤشرات التضخم بالتراجع. ومن المرجح ألا تنجح هذه السياسات في خفض معدلات التضخم حتى تدخل اقتصادات كبرى في ركود، ما سيقود إلى آثار سلبية ملموسة على التجارة والاستثمار العالمي. وعموما فإن ارتفاع معدلات التضخم الأساسي فوق مستويات 4 في المائة سيقود إلى سياسات تشدد مالي ونقدي تؤدي بالتالي إلى الدخول في ركود اقتصادي. وكلما ارتفعت معدلات التضخم ارتفعت مخاطر الدخول في ركود اقتصادي في وقت لاحق.
نظرا لمستويات الديون الوطنية المرتفعة، فإن أي رفع لمعدلات الفائدة سيدفع تكاليف خدمة الديون في الدول المتقدمة إلى مستويات غير مسبوقة ويحد بالتالي من قدراتها على التوسع المالي والتعامل مع الركود الاقتصادي. من جهة أخرى سيتراجع صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الدول النامية، كما ستواجه الدول النامية مرتفعة المديونية الأجنبية من مخاطر مالية جمة وتجد صعوبات بالغة في تسديد التزاماتها. أما ارتفاع أسعار الطاقة فسيصب في مصلحة منطقة الخليج ومن بينها المملكة، وستفوق منافع ارتفاع أسعار الطاقة تكاليف ارتفاع أسعار المواد الأولية والأغذية والواردات بشكل عام. لهذا من المرجح أن تكون المنطقة - إن شاء الله - من الأماكن القليلة الأقل تأثرا بتراجع الأوضاع الاقتصادية العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي