جابر النص لدى القاضي
بعد أن انتهى حوار صاحبنا في مقال الأسبوع الماضي مع الطبيب إلى غير النتيجة التي كان يتوقها، وهي استئصال أي من ضميره أو هواه وقناعته باستحالة ذلك فسيولوجياً، تفتق ذهنه عن استراتيجية جديدة ربما تصل به لذات النتيجة ولكن من خلال طريق مختلف، لذا قرر أن يذهب إلى القاضي ويدعي على ذاته.
لدى القاضي، انتظر صاحبنا حتى يفرغ فضيلته من بعض أعماله فيعرض عليه أمره، ولم يطل انتظاره حتى بادره القاضي بالاستفهام عن شأنه، فاقترب من منصة القاضي وحياه بتحية تليق بمقام فضيلته، ثم تجهم ليقول "أريد أن أدعي على نفسي". وباستغراب سأله القاضي "بأي صفة تدعي على نفسك" فقال صاحبنا "بصفتي واحدا من الناس الذين تضرروا من تصرفاتي وممثلاً عنهم" فرمقه القاضي بعين الإقلال اشتباها بلوثة عقله وقال له "يا أخي أولا المدعي العام فقط هو من له حق الادعاء بالإضرار العام، وأنت لست المدعي العام". تبسم صاحبنا وكأنه استولى على الحجة الحاسمة "يا فضيلة القاضي أنا متضرر وأريد رفع الضرر أفلا يحق لي الادعاء بذلك؟" فرد القاضي "نعم يحق لك ذلك طالما المدعى عليه إنسان كامل الأهلية، ولكن ادعاءك على نفسك غير مناسب، فضررك على نفسك لا يقتضي القضاء برفع الضرر من ذات المدعي لاستحالة الفصل بين الإنسان وذاته" بدا للقاضي أنه بين لصاحبنا ما خفي عليه وبدت على محياه بسمة عطف رقيقة لحال صاحبنا الذي ظل فاغرا فاه وكأنه يستملي الإلهام للرد على القاضي، وسرعان ما رفع حاجبيه ثم أرخاهما ليقول للقاضي "أليس القضاء هو الحكم على أفعال الناس وأقوالهم بالحق أو الباطل" فرد القاضي "نعم هو كذلك ولكن الحكم على صحة أو بطلان فعل أو قول يلزم تعلق ذلك بشخص صحيح الأهلية فلا معنى للحكم على قول أو فعل مجرد، لذا نحن القضاة نحكم بين الناس، عليهم ولهم بحسب أفعالهم وأقوالهم" وهنا يحتج صاحبنا "ولكن يا فضيلة القاضي ربما أنه ليس من الإنصاف أن تحكم على الإنسان بصفة لازمة تقتضي تأثيراً ممتدا في الزمن بناء على قول أو فعل ربما لا يعبر عن حال الإنسان في ذات الوقت الذي تمضي فيه حكمك" ضحك القاضي مرة أخرى وقال لصاحبنا "يا أخي الأمور لديك مختلطة، إن التوبة والندم شرعا لمن تغيرت حاله بعد اقتراف ذنب لازم أي ضرره على نفسه، أما من تعدى ضرره إلى آخرين فلا بد من اقتصاص ذلك منه لتستقيم العدالة بين الناس، لذا أرى أن ما تدعيه على نفسك هو من باب الندم والرغبة في التوبة، فلك ذلك، ولعل الله أن يغفر لك وتستقيم حالك على صلاح دائم" فرد صاحبنا "ولكن يا فضيلة القاضي أنا لم اقترف ذنبا يتطلب أن أتوب منه" وهنا عدل القاضي من جلسته وقد بدا عليه الاستغراب والاستنكار لجدلية صاحبنا فرمقه بنظرة تترجم حيرته وبصوت رصين جاد سأله "ما اسمك" فرد صاحبنا بهدوء كما لو كان يستميل القاضي لمواصلة جداله "أسمي جابر النص" واستمر القاضي بالتحديق في جابر قبل أن يتجه بنظره إلى كاتبه ليسأله "أليس لدينا خصومة اليوم؟" فرد الكاتب "بلى يا فضيلة الشيخ، ولكن المدعي بالخصومة اتصل أمس ليعتذر عن عدم الحضور لوعكة ألمت به، فبلغنا المدعى عليه ألا يحضر حتى نستدعيه بعد شفاء المدعي إن شاء الله" فرفع القاضي نظارته إلى ما فوق حاجبيه ليمسح ما حول عينيه ثم طلب من الكاتب أن يقفل الباب وعاد بنظرة مرة أخرى إلى جابر وقال له "أعطنا دعواك!" فرد جابر باستغراب "ألا تنوي ضبطها بالسجل" فرد القاضي كمن استملكه الملل "لنسمع الدعوى أولا ثم نرى ما يمكن ضبطه، فقل ما عندك".
انشرح صدر جابر وظن أنه حقق غايته فبدت عليه علامات الارتياح فعدل جلسته ليكون في مواجهة القاضي وبدأ بسرد دعواه فقال "يا فضيلة القاضي ولدت في هذه المدينة وترعرعت بين أهلها، أسمع ما يقولون وأرى ما يصنعون وكنت كثير الأهواء تقودني رغباتي من غير أن أجهد حالي في كبحها، كنت متمرساً في الخلاص من المآزق التي أقود نفسي لها، ولا أتردد في تبرير أفعالي مهما كانت بما يتسق والحال المقبول، فكنت أحتال كل الحيل لاتقاء غولة والدي وأتفنن في استجداء عطف والدتي، وكثيرا ما اتقيت بها سطوته فكانت الترس الذي يتلقى سهام حماقته، يا فضيلة القاضي، إن الماثل أمامك ما كان يثبت في قلبه ود لأحد أو في عقله رأي يعرف به، كان كثير التحول حسب مقتضى حال المصلحة فكان يغتاب من لا يعرف ليصطاد قبول مناوئيه، ويمتدح مسيئا حاضر طلباً لمنفعة، كان ينعت ذاك بأنه خلاسي لا أصل له وهذا بأنه مجانب لا مذهب له، يقوم بين الناس فيما يفرق بينهم إذا كان له في ذلك مصلحة، ويكره الناجحين والمخلصين لما يمثلوا له من تحد أخلاقي، ويتهم من حسنت حاله بالسرقة والرشوة والفساد بلا دليل، ولا يطيق أن يذكر أحد عنده بخير. كان كثير العصبية لعائلته وقبيلته يقلب الحق باطلا والباطل حقا طالما كان ذلك يحقق رضاهم ويستجلب له مديحهم. وعندما ولي الوظيفة جعلها مطية لهواه ووسيلة لمكاسبه فكان يستغل مواردها ويستقوي بسلطانها لتحقيق مآربه. والأدهى من ذلك كله عندما أصبح مديرا لدائرته، فلبس عباءة فرعون وسخر موظفيها لخدمته ورعاية مصالحه، وعلى مر الزمن كان يطور مهاراته في التملق والتحلق حول أصحاب النفوذ ليكتسب رضاهم ويحجب عنهم مسائه، ويجتهد في استظهار ودهم له أمام الناس ليوظفه في مزيد من الاستكساب والاستغلال، يا فضيلة القاضي إن هذا الماثل أمامك قد أضر بي وبسمعتي أمام الناس حتى تركني الأقربون وبت مرمى نظرات الشامتين، فلا أحد يقبل مني قولا ولا يرد علي تحية، فبعد التقاعد، بت أسير إساءته ورهين اجتراءاته. وحيداً بين الناس، طريد سخطهم وكبيل جفاهم. لذا أطلب من فضيلتكم النظر في دعواي وإنصافي منه".
كان القاضي مستنداُ بكوعيه إلى منصة القضاء ومركياً ذقنه على راحتيه عندما كان جابر مسترسلا في دعواه وعندما أنهى كلامه استقام القاضي في جلسته على كرسيه ونظر لجابر نظرة الحائر المتعجب وقال "كمدعى عليه ما هي إجابتك للدعوى؟"
فرد جابر "أنا واحد من الناس إذا استقام حالهم استقام حالي!!".