العالم السيبراني في استراتيجية وطنية

ليس العالم السيبراني الذي يشغل بال الجميع، ملك أمة بعينها، بل إن العالم المادي بأسره يشترك في ملكيته، وتعزيز إمكاناته الممتدة إلى كل مكان وصله الإنسان، والعمل على الاستفادة منها. وتسعى المنظمات الدولية، كما بينا في مقالات سابقة، إلى الإسهام في حوكمة هذا العالم، وطرح توجهات استراتيجية بشأن تفعيله، وتنظيم تواصل الأمم عبره، وبناء بيئة سليمة تحميه. وتعمل الدول منفردة أيضا على مثل ذلك، في إطار تأثرها وتأثيرها في هذا العالم، والتوجه نحو تحقيق طموحاتها. واستكمالا للصورة الاستراتيجية لهذا الموضوع، المعطاة في المقالات السابقة، يطرح في هذا المقال مضامين إحدى الاستراتيجيات الوطنية، المتاحة على نطاق واسع، كمثال فعلي على ما يمكن أن تقوم به الدول في هذا المجال. ولعل الاستراتيجية الوطنية السيبرانيةNational Cyber Strategy الأمريكية الصادرة في أيلول (سبتمبر) عام 2018 تعطي هذا المثال، ربما موسعا بعض الشيء، لأنه يرتبط بدولة احتل اقتصادها، ولعقود طويلة، المكانة الأولى في العالم.
تستند الاستراتيجية المطروحة إلى أربعة أعمدة Four Pillars، لكل منها هدف محدد. ولعلنا نبدأ بالأهداف التي تمثل القاعدة الأساسية للاستراتيجية، ثم ننطلق إلى بيان القضايا المرتبطة بكل منها. يتعلق الهدف الأول بالتوجه نحو إدارة المخاطر على الأمن السيبراني من أجل حماية أمن المعلومات وأنظمتها على مستوى الدولة، وزيادة قدرتها على التكيف Resilience. ويهتم الهدف الثاني بالمحافظة على تأثير الدولة في المنظومة التقنية للعالم السيبراني وتطورها، وجعلها محركا فاعلا للنمو الاقتصادي، والابتكار والكفاءة. ويقضي الهدف الثالث بمواجهة كل ما يهدد الاستقرار والمصالح الوطنية عبر تحديد مصادر التهديد وردعها ومنعها من هذا السلوك، مع المحافظة على تفوق التأثير الوطني في مدى العالم السيبراني. ويركز الهدف الرابع على المحافظة على انفتاح الإنترنت على العالم، وتوافقية عملها، وأمنها، وموثوقيتها، بما يؤدي إلى دعم المصالح الوطنية وتفعيلها.
وهكذا نرى أن أهداف هذه الاستراتيجية الوطنية تبدأ بحماية الأمن السيبراني الوطني والمحافظة على الأصول ذات العلاقة، ثم تحرص على التفوق في المنظومة التقنية للعالم السيبراني من أجل مكاسب تنموية، وتركز بعد ذلك على التفوق في التأثير في العالم السيبراني وردع مصادر التهديد من أجل خدمة المصالح الوطنية وتهتم أخيرا بالانفتاح العالمي للعالم السيبراني وتوفير إنترنت آمنة، في إطار تعزيز المصالح الوطنية أيضا. ولعل هناك ملاحظتين في هذا المجال. تتمثل الأولى في رؤية العالم السيبراني بمنطق المصالح الوطنية الخاصة، ولعل هذا الأمر مشترك ربما بين جميع الأمم. أما الملاحظة الثانية فهي النظر إلى العالم السيبراني كمصدر لمكاسب تنموية في التعامل مع الدول الأخرى، ووسيلة للتأثير فيها، ولعل هذا الأمر يمثل خاصية تتمثل غالبا في بعض الدول المتقدمة.
ونأتي الآن إلى التعريف بالقضايا الرئيسة المرتبطة بكل من الأهداف سابقة الذكر. إذا بدأنا بالهدف الأول الخاص بحماية الأمن السيبراني نجد أن قضاياه قد حظيت بثلاثة محاور رئيسة، يختص أولها بحماية الشبكات، وأنظمة المعلومات الحكومية، وإجراء ما يلزم بشأنها في العمل على إدارة للمخاطر وحماية للأصول. أما محورها الثاني، فيهتم بحماية البنى الحرجة للدولة، وقد تحدثنا عن متطلبات حماية هذه البنى في مقال سابق. ويهتم المحور الثالث بمسألة التعامل مع الجرائم المعلوماتية وحث الجميع على الإبلاغ عنها، حرصا على كشفها وإجراء ما يلزم للحد منها.
وننتقل إلى قضايا الهدف الثاني الخاص بتفوق المنظومة التقنية ومكاسب ذلك. ولهذه القضايا ثلاثة محاور أيضا. يتطلع المحور الأول إلى دعم حيوية الاقتصاد الرقمي، وتفعيل تكيفه مع المتغيرات، وتعزيز الابتكار في مجالاته. ويؤكد المحور الثاني ضرورة المحافظة على إمكانات التميز والسعي إلى تطويرها وتعزيز معطياتها. ثم يهتم المحور الثالث ببناء ثروة بشرية متفوقة تتمتع بالبراعة في المهارات، والإبداع والابتكار، وريادة الأعمال، والقدرة على العطاء. وفي إطار نشاطات هذه المحاور، تقضي الاستراتيجية بالاهتمام بالابتكار، والأوليات اللازمة لذلك، وطرق الاستفادة من أصحاب القدرات المتميزة.
ونصل إلى قضايا التأثير في العالم السيبراني وردع مصادر التهديد المرتبطة بالهدف الثالث، ولهذه القضايا محوران رئيسان. يهتم الأول بالتأثير في العالم السيبراني عبر تأمين استقرار سيبراني يستند إلى توافق عالمي على قواعد لضبط سلوك الدول، وتفعيل التزام الجميع بهذه القواعد. ويركز المحور الثاني على ردع كل ما يهدد العالم السيبراني، ويؤدي إلى عدم استقراره. ويشمل هذا الردع تفعيل عقوبات على من لا يلتزم بضوابط السلوك المتفق عليها، والعمل على مقاومة التأثيرات الخبيثة في عمليات التعامل مع البيانات، إضافة إلى إعداد مبادرات للقيام بالردع عند الحاجة.
ولقضايا الهدف الرابع الخاص بتوفير إنترنت آمنة ومنفتحة عالميا على الجميع محوران رئيسان. يطرح الأول مسألة توفير إنترنت تتمتع بخصائص الأمان والموثوقية والتوافقية والقدرة على الانفتاح على العالم، ويكمل الثاني الأول بالتأكيد على السعي نحو تفعيل بناء سعة سيبرانية كافية للإنترنت على مستوى العالم. ولعل من أبرز النشاطات المطلوبة، لتحقيق طموحات هذين المحورين، التعاون مع الدول والشركات والمؤسسات الأكاديمية وهيئات المجتمع المدني حول العالم التي تحمل أفكارا متوافقة مع توجهات هذين المحورين تجاه العالم السيبراني. ويشمل هذا التعاون جوانب عدة من أهمها إقامة بنى اتصالات قابلة للتوافق والعمل المشترك من أجل تحقيق الانفتاح المنشود، وإقامة شراكة عالمية واسعة وفاعلة لحوكمة العالم السيبراني.
قدمت الاستراتيجية الوطنية للعالم السيبراني المطروحة في هذا المقال أفكارا متعددة بشأن هذا العالم وتوجهات المستقبل بشأنه. واتسم ذلك بالتركيز على المصالح الوطنية للجهة صاحبة الاستراتيجية، والحرص على التأثير في الدول الأخرى، والسعي إلى تحقيق مكاسب تنموية. ورغم أن الوثيقة التي طرحت هذه الاستراتيجية اكتفت بالأفكار وبينت التوجهات ولم تتعمق بشؤون التنفيذ، إلا أن ما قدمته يتمتع بفوائد تحمل قيمة في التخطيط للمستقبل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مثل هذه الاستراتيجية تحتاج إلى تطوير متواصل يأخذ المعطيات المتجددة في الحسبان، ويستجيب أيضا للمتطلبات.

المزيد من الرأي