تحفيز الاقتصاد في ظل الأزمةالراهنة
د. اميل قسطندي خوري / الأردن
وقعت الأزمة المالية العالمية وغدت أمرا واقعا نلمس آثارها يوما بعد يوم. الكثير منا لم يكن يتوقع حدوثها والبعض ما زال يعاني الويلات الموجعة من تداعياتها المدمرة والبعض الآخر يقف عاجزا إزاءها لا يعرف كيف يتصرف أو ماذا يفعل أو كيف يتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها الأزمة علينا جميعا. الصدمة كانت قوية ولكن الله عز وجل موجود. فنحن بالإيمان (وبالإيمان وحده) نستطيع تجاوز الأزمات مهما كانت شديدة لان الله سبحانه وتعالى أعظم وارحم "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" فهو خالقنا فكيف يتركنا لحتفنا أو يخلو بنا؟
والآن، ماذا نفعل لمواجهة الانكماش الاقتصادي الرهيب الذي ألقى بظلاله على العالم كله والذي قد يستمر لفترة طويلة (لا قدر الله)؟ ماذا نفعل لتفادي خطر الانزلاق في ركود اقتصادي واسع النطاق ودرء شبح كساد عميق قد يطول أمده لسنوات عدة قادمة؟ كيف نتعامل مع هذه الأوقات العصيبة التي عبرت رياحها العاتية على ديارنا كلنا من مشارق الأرض إلى مغاربها؟ ما هي الخطوات الاحترازية والأدوات الإصلاحية المطلوب منا إقرارها لإخراج الاقتصاد العالمي من دائرة الركود وإنقاذه من مخالب الكساد؟ وما هي الوسائل والآليات التي يجب علينا أن نستعين بها للتصدي للازمة العالمية الحالية؟ تساؤلات كبيرة ذات أبعاد أكثر عمقا ليس بوسعي أن أقدم لها حلولا إسعافية وافية أو علاجات قاطعة شافية، ولكني أتوجه إلى الله سبحانه وتعالى قاصدا إياه أن يقدرني على تقديم الواجب الذي احمله على عاتقي بكل صدق وأمانة وسائلا إياه أن يهبني الحكمة والبصيرة في تقديم المقترحات التالية التي سأدرجها هنا كخطط لإنعاش النمو المتباطئ وبرامج تحفيزية لتعزيز النظام المالي والحد من تفاقم الكساد الاقتصادي وتخطي التأثيرات السلبية للجمود المالي الناتج عن أزمة التمويل وشح السيولة وتشديد إجراءات الائتمان ومعايير الاقتراض.
* مكافحة الركود الاقتصادي:
بادئ ذي بدء لا بد من مراعاة معاناة الناس وأوضاع الشركات المأزومة من خلال إجراء تخفيضات ضريبية للأفراد والشركات (كضريبة الدخل والضرائب المستوفاة على أرباح رأس المال). إن تخفيض الأعباء الضريبية على الشركات (لا سيما الصغيرة والمتوسطة منها) والمواطنين (لا سيما الفئات الاجتماعية غير الميسورة وذوي الدخول المتدنية) سوف يساعدهم وبلا أدنى شك على تجاوز الصعوبات الحياتية اليومية التي أفرزتها الأزمة المالية العالمية ومضاعفاتها السلبية على الحالة العامة للاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى إعاقة النمو وتوقف عجلة الاقتصاد معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة من الانكماش والركود. كذلك لا بد من إصدار كوبونات غذاء ومنح دعم نقدي وعيني لاسر الطبقات الدنيا والمتوسطة من المجتمع والعمل على تفعيل اكبر للاستقطاعات الاجتماعية المالية (كفريضة الزكاة مثلا والتي هي من أركان الإسلام بحسب الآية الكريمة من سورة البقرة "وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير") من اجل مساعدة الفقراء والمحتاجين والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة الذين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي القدير في هذه الظروف الصعبة. فنحن، ومن خلال هذه السياسات المالية الضريبية المقترحة، نعقد الأمل على زيادة مداخيل الأفراد المتصرف بهاdisposable incomes ورفع هوامش الأرباح الصافية للشركات after-tax net profits من اجل تشجيع الطلب الاستهلاكي والإنفاق الاستثماري (الإنتاجي) وبالتالي تحريك عجلة الاقتصاد وإنعاش النمو المتراخي. كذلك لا بد من تكريس الإنفاق الحكومي الرأسمالي وضخ الأموال المخصصة في الموازنة العامة في قطاعات الإنتاج المادي (كالصناعة والزراعة والتجارة) وإقامة مشاريع تنموية حيوية متنوعة من اجل خلق فرص عمل وتشغيل العمالة العاطلة عن العمل، الأمر الذي نستطيع معه توليد الدخل وبالتالي محاربة الفقر وتحسين الأوضاع المالية والاجتماعية للمواطنين والحد من نمو البطالة المرتفعة. كذلك لا بد من إنشاء مشاريع إنتاجية وزراعية وتجارية ميكروية (صغيرة او متوسطة الحجم) في مناطق جيوب الفقر والبطالة القسرية structural unemployment (البطالة التي تتمخض عن غياب أو قلة الطلب على العمال المتاحين) وذلك لمساعدة سكان هذه المناطق على تحسين ظروفهم المعيشية وأحوالهم المادية وإعطاء هذه الشريحة المهمشة من المجتمع فرصة حقيقية للمساهمة في النهوض بالاقتصاد الوطني المحلي.
*احتواء التضخم وغلاء الأسعار:
لا بد من إجراء تخفيضات على الضرائب غير المباشرة (كضريبة المبيعات ad valorem tax أو ضريبة القيمة المضافة value-added tax أو الرسوم أو الجمارك customs tariffs) على المواد الغذائية والمنتجات الأساسية والمواد الأولية ومدخلات الإنتاج (كالمحروقات من ديزل وغاز وكاز وبنزين) ومستلزمات الإنتاج (كالورق والكرتون والبلاستيك والحديد الذي يدخل في الصناعات التعدينية مثل المعلبات الغذائية والاسمنت الذي يستخدم في قطاع البناء والإنشاءات العقارية) الأمر الذي سوف يؤدي إلى تخفيض كلف العمالة والمصاريف التشغيلية (الثابتة والمتغيرة) وأجور النقل والإيجارات.الخ، مما يمكننا من تمرير هذه التخفيضات على الأسعار وبالتالي دفع معدلات التضخم إلى الهبوط ومن ثم تحفيز الإنفاق وتنشيط الأسواق وصولا إلى زخم اقتصادي أكثر نموا. ويجب أن لا ننسى حقيقة مهمة وهي أن تخفيض الأسعار هو المحرك اللوجستي أو المحوري لعجلة النمو المتباطئ وذلك بسبب الزيادة النسبية التي تطرأ على وتيرة الطلب على السلع والخدمات والاستثمارات بكافة أشكالها وأنواعها.
* تسهيل شروط الاستثمار :
لا بد من منح تسهيلات وحوافز استثمارية من اجل توفير مناخ جاذب لتوليد استثمارات عربية بينية وأجنبية مباشرة and foreign direct investments inter-arab وتحرير الاستثمارات الأفقية (الاستثمار في استخراج البترول ومشتقاته) وذلك لجلب جداول من العملات الصعبة hard currency streams وإيجاد فرص عمل للمواطنين من شانها أن تساهم في زيادة دخول الأفراد ورفع مستوى الخزينة العامة من الإيرادات الضريبية التي يتم استيفاءها من الجهات المستثمرة والعمالة الفاعلة وبالتالي تحفيز الطلب الاستهلاكي والإنفاق الحكومي العام على السلع والخدمات وزيادة معدلات استثمارات الأعمال business investments، الأمر الذي سوف يؤدي إلى تحريك وتنشيط الدورات الاقتصادية بطيئة الحركة slow moving business cycles.
ولا بد أيضا من تخفيف قواعد المنافسة competition requirements لاسيما في ظل مناخ الأعمال المتراجع حاليا إذا ما أردنا تدفق رؤوس أموال القطاع الخاص وتشجيع المستثمرين (عماد الاقتصاد الخاص private sector economy) وتحسين ثقتهم على تعزيز نشاطاتهم الاستثمارية في مختلف القطاعات الاقتصادية كالطاقة والنقل والتعدين والاتصالات والتكنولوجيا والإسكان والعقارات والسياحة ... الخ. ولكي تؤتي الاستثمارات المرجوة ثمارها لا بد لنا أيضا من العمل على تحرير حركة المبادلات التجارية بين الدول المعنية إذا ما رغبنا في زيادة معدلات التدفق التجاري من استيراد وتصدير بين هذه الدول، وذلك لتوفير بيئة أكثر مرونة وسلاسة للمستثمرين في تحريك منتجاتهم عبر حدود أكثر انفتاحا واستيعابا، وصولا إلى تحقيق المنفعة المشتركة لجميع الإطراف.(ملاحظة: يعتمد مدى نجاح دولة ما في استقطاب الاستثمارات الأجنبية على عوامل عديدة منها ظروف الدولة الاقتصادية، بيئة الأعمال فيها، الوعي الثقافي لشعبها، جهودها في تشجيع وجذب الاستثمار، أمنها الاجتماعي، واستقرارها السياسي).
* توفير السيولة المالية:
لا بد من تحرك حازم باتجاه التصدي لازمة السيولة ومحدودية النقد ومعالجة الأزمة الائتمانية وندرة القروض الشخصية والاستثمارية وذلك من خلال تبني سياسة مالية تتمثل في التوسع المالي money expansion. فلجمع الأموال مثلا يمكن إصدار سندات متدنية القيمة أو معفاة من الضرائب أو ذات عائد اكبر لتشجيع المستثمرين والشركات على شرائها، ومن ثم ضخ هذه الأموال في البنوك والمؤسسات والأسواق المالية. كذلك لا بد من حث البنوك المركزية على اعتماد إجراءات نقدية أكثر مرونة وذلك بتسهيل شروط منح القروض من خلال خفض أسعار الفائدة (تقليل تكاليف الإقراض) وتقليص حجم أو نسب الاحتياطيات الإلزامية المودعة لديها بهدف رفع مستوى السيولة المالية لدى البنوك التجارية. فمن خلال هاتين السياستين المالية والنقدية نستطيع تحسين نشاط الإقراض وزيادة المعروض النقدي في الأسواق لإتاحة السيولة ليس فقط للشركات كي تتمكن من تمويل احتياجاتها الاستثمارية أو التوسع في مشاريعها أو الاستمرار في ممارسة أعمالها بل أيضا لزيادة قدرة المستهلكين على الشراء وبالتالي التخفيف من حدة عزوفهم عن شراء السلع واستخدام الخدمات، خصوصا فيما يتعلق بشراء المنازل والسيارات والسلع المعمرة durable goods (كالأثاث والتلفزيون والثلاجة والغسالة والكمبيوتر وغيرها) وذلك أملا في تحريك مياه الطلب الراكدة وزيادة معدلات الإنفاق الاستهلاكي والإنتاجي. وبالإضافة إلى تعزيز نمو الإقراض (العقاري والاستثماري وغيرهما)، يا حبذا لو قامت البنوك بتمرير تخفيضات الفوائد على القروض الممنوحة مسبقا من خلال إعادة جدولة ديون الأفراد والشركات لتمكينهم من الوفاء بالتزاماتهم المالية متعثرة السداد على شكل أقساط ميسرة بفوائد اقل وعلى اطر زمنية أطول. ولا بد أيضا من تقديم مساعدات نقدية للشركات المتضررة التي لا تملك اللجوء إلى تمويل مشاريعها عن طريق الاقتراض من المصارف ومؤسسات إقراض المال في ظل شح المعروض النقدي وعجز مصادر هذه الشركات على التمويل الذاتي نتيجة للصعوبات الجمة التي تواجهها في الحصول على سيولة liquidity. كذلك لا بد من تقديم حزمة مساعدات مالية وغيرها للمصانع والمشاغل والمزارع التي تعاني من أزمات مختلفة كعدم القدرة على الاستمرار في السوق أو مواجهة خطر الإغلاق أو تقف على شفير الإفلاس أو تجد نفسها مضطرة إلى تسريح عمالها ... الخ.
* زيادة المخزون الإستراتيجي:
لابد لنا أيضا من الاهتمام بزيادة مخزوننا الاستراتيجي strategic reservoir من المشتقات النفطية والمواد الغذائية الأساسية (كالحبوب من أرز وقمح وذرة وعدس وحمص وفول والسكر والشاي والبن والحليب وبيض المائدة واللحوم الحمراء والبيضاء والزيوت النباتية) والسلع الحياتية الضرورية (كالصابون والأدوية والمواد التموينية من معلبات غذائية ومخللات وطحين والمنظفات المنزلية والمحروقات من كاز وسولار والغاز) عملا بالمثل القائل "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود". ففي مثل هذه الأوقات البائسة والأزمنة الصعبة الحرجة التي أصبح معها التنبؤ بما سيحدث في العالم ولو بعد دقائق معدودة أمرا غاية في الصعوبة من شدة التقلبات والمخاطر المالية وحدة الاضطرابات السياسية وتسارع التوترات الاجتماعية هنا وهناك في أطراف مختلفة من العالم. ومن هنا علينا أن نكون على أقصى درجات الحرص والوعي والإدراك والتيقظ والثقافة (والاهم من ذلك كله الصلاة الدائمة والتوسل إلى الله عز وجل كي يرأف بنا جميعا ويغمرنا بواسع رحمته له كل الشكر والحمد والتسبيح). فوضع المسرح العالمي أصبح كما لو انه فيلم رعب من نسج الميتافيزيقيا النفسية psychic metaphysics التي تجعلك لوهلة زمنية صغيرة nano second تعتقد انك في مكان ما، في حين أنك بالحقيقة لست لا هنا ولا هناك، ولا يعلم بحقيقة مكان وجودك المادي سوى الله جل جلاله وحده.
* إجراء تدابير تقشفية:
لا ضير علينا لو قمنا باعتماد حزمة من الإجراءات التقشفية الوقائية والأخذ بسياسة الترشيد rationing وشد الحزام. فالاقتصاد frugality مثلاً في الاستهلاك والإنفاق والتقشف الغذائي وادخار بعض المال للضرورات القصوى وحالات الطوارئ contingencies وإعادة توزيع مواردنا توزيعا رشيدا resources allocationبالشكل السليم الذي يؤمن لنا قوت الغد ما هي إلا سلوكيات محمودة سوف تجلب منافع عديدة بإذن الله تعالى. فماذا سيضرنا مثلا لو قمنا (كنوع من إحداث بعض التغييرات الاحترازية في أنماط استهلاكنا) بمحاربة نقص المعروض الغذائي food supply shortage من خلال العودة إلى الزراعة المنزلية home farming لنأكل مما تنتجه أيدينا من خضروات وفاكهة ونباتات وبقول؟ ماذا سيضرنا لو ...؟