تطوير القضاء .. والحاجة إلى محكمة مالية

قُدمت الورقة الأولى في منتدى الرياض الاقتصادي بعنوان "تطور المنظومة القضائية وعناصر القوة ومجالات التطوير" التي تطرقت إلى عديد من أوجه التطوير التي تحتاج إليها مرافق القضاء.
وبحكم عملي سابقاً مستشاراً في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء ولجنة المنازعات المصرفية، فإني أرى أن المملكة تحتاج إلى استكمال منظومتها القضائية، وإنشاء محكمة مالية، تضم جميع اللجان المستثناة، وهي (لجنة المنازعات المصرفية, ولجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، ولجنة الفصل في المخالفات والمنازعات التمويلية، ولجان الفصل في المنازعات والمخالفات التأمينية، واللجان الجمركية والضريبية والزكوية,...), إذ المُتبع أن جميعها يتبع وزارة المالية بصورة أو بأخرى.
ثم إنه من غير المقبول أن لجاناً قضائية تتبع جهة واحدة (كمؤسسة النقد العربي السعودي), بعضها بأمين عام وبعضها بدون، بعضها (كلجان التأمين) لها عدة فروع في المملكة، وبعضها (كلجنة المنازعات المصرفية) ليس لها فروع في المملكة رغم أن قضاياها أكثر من قضايا لجان التأمين.
كما أن من غير المقبول أن تكون كل جهة حكومية لها لجنة قضائية تابعة لها، لما في ذلك من تداخل الاختصاص بين السلطتين القضائية والتنفيذية، وهو الحاصل, ناهيك عن أن كل لجنة لها نظامها الإجرائي الخاص بها، وكأنها (إن لم يكن ذلك هو الواقع) قد شُكلت وصيغت هيكلتها وإجراءاتها لمصلحة الجهة الحكومية التي تتبع، أو لمصلحة مسؤولي تلك الجهة، أو وفق إمكانات كل جهة على حدة.
فاللجنة الجمركية، مُشكلة في أغلب أعضائها من موظفين في الجمارك، كما أن أغلب قضاياها بين (مصلحة الجمارك) والتجار، ومن غير المقبول أن يكون الخصم حكماً، وهو ما يستدعي أن الأحكام مهما كانت عادلة، متى ما صدرت ضد المواطنين والتجار أن يكون أحد المآخذ عليها هو تشكيل اللجنة وعدم الفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية.
وكذلك الحال في لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، ولجنة المنازعات المصرفية، فإنه وإن كان أعضاؤها مشكلين بقرارات سامية من خارج جهاز هيئة السوق المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي (على التوالي)، فإن مستشاري ومسؤولي وموظفي هذه اللجان هم موظفون لدى الجهات التنفيذية (هيئة السوق ومؤسسة النقد) وهو ما يعني عدم استقلالية مستشاري هذه اللجان (وهم دارسو القضايا، وأصحاب الرأي فيها) أو عدم حصانتهم، أو الوقوع في تعارض مصالح، ناهيك عن أنه من غير المقبول أن يكون الخصم حكماً، كما هو الحال في القضايا المقامة بين هيئة السوق المالية والأشخاص أمام الهيئة نفسها وأمام لجنة الأوراق المالية.
لقد صدرت آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء عام 1428هـ وأعطت اللجنة المشكلة في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء مدة لا تتجاوز سنة لتنظيم اللجان المستثناة، وها نحن في عام 1437هـ دون أي تنظيم نتوقعه قريبا بشأن تلك اللجان.
ولقد صدر الأمر الملكي في 11 / 8 / 1433هـ بإنشاء اللجنة الاستئنافية للمنازعات والمخالفات المصرفية، ولم تُسمَّ أعضاؤها إلا بتاريخ 18 / 2 / 1437هـ.
إن المتأمل في ذلك مع معرفته بتاريخ تأسيس كل من هذه اللجان المستثناة، قد يعزو ذلك للمرجعية المطلوب لها هذه اللجان, أو التنافس بين بعض الجهات على تلك المرجعية لهذه اللجان، وهو ما قد يكون أحد أسباب التأخر في تنظيم هذه اللجان رغم أهميتها وأهمية الحاجة إلى تنظيمها لاستقرار البيئة العدلية ووضوحها، دعماً واستقراراً للعدالة وجميع المتعاملين من شركات ومواطنين وأجانب، من تجارة داخلية واستثمار مع الخارج.
إنني أجزم أن ترك هذه اللجان من غير تنظيم والتأخر في تنظيمها كان أثره السلبي وضرره يفوق بكثير الاختلاف على تحديد المرجعية.
لأجل ذلك كانت الأهمية بالغة بتنظيم جميع اللجان المستثناة، مستفيدين من خبراتها العميقة الممتدة لآلاف القضايا المتخصصة، والذي جعل بعض هذه اللجان يملك مخزوناً من الأحكام والقضايا ينافس في خبرته وتخصصه عالمياً.
أما الشكل الذي أراه للتنظيم، فهو إنشاء محكمة مالية تضم جميع اللجان المستثناة (وجميعها يتبع وزارة المالية بشكل أو بآخر)، تضم في جنباتها دوائر متخصصة، تستفيد من مخزون الخبرات السابقة، ويحدد مرجعيتها حيث تسمو على جميع الاختلاف على المرجعية، فيتحقق بإنشاء هذه المحكمة المالية -إضافة إلى توافر الضمانات القضائية المطلوبة في أي عمل قضائي- الآتي:
أ – الفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية, وحصانة القاضي وأعوانه واستقلاليتهم عن جميع الجهات التنفيذية.
ب – توحيد إجراءات المرافعات ووضوحها، تيسيراً على جميع المترافعين.
ج – القضاء على تنازع الاختصاص بين هذه اللجان، وهو كثير في أرض الواقع, وإحدى أهم الإشكاليات التي تستوجب أهمية تأسيس المحكمة.
د – السعي لتوحيد المبادئ القضائية, كون الأحكام صادرة من محكمة واحدة.
هـ – فتح فروع لهذه المحكمة، فيكون الترافع سهلاً على جميع أهالي مناطق المملكة.
و - خفض التكاليف، بسبب ضم عشرات اللجان في محكمة واحدة.
آمل أن يلقى الاقتراح صدىً عمليا، وترى المحكمة المالية النور خلال سنة من هذا المقال، ولبلادي دائماً الدعاء بالتوفيق وبلوغ القمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي