بعد مزاد باهت.. "الترقب الشديد" يعود إلى سوق السندات الأمريكية

الاضطرابات الأخيرة لا تتعلق بالتعريفات الجمركية، بل بالتدهور المتسارع في الوضع المالي للولايات المتحدة

عادة ما تكون مزادات سندات الحكومة الأمريكية أحداثاً روتينية باهتة، إلا حين لا تكون كذلك. ومزاد وزارة الخزانة يوم الأربعاء على سندات لأجل 20 عاماً بقيمة 16 مليار دولار، كان من النوع الثاني بلا شك، ومن غير المرجّح أن يكون الأخير من نوعه.
هذا الطرح كان أول مزاد تقدّمه الحكومة على ديون تحمل قسيمة فائدة، منذ أن قامت وكالة "موديز" يوم الجمعة الماضي بسحب التصنيف الائتماني الممتاز "AAA" للولايات المتحدة، لتكون بذلك الأخيرة بين 3 وكالات تصنيف كبرى تتخذ هذه الخطوة، بعد أن سبقتها "إس آند بي" في 2011 و"فيتش" في 2023.
اعتُبر هذا المزاد ضعيفاً وفقاً لمعيارين حاسمين على الأقل: حجم العطاءات المقدَّمة من المستثمرين مقارنة بحجم الطرح، والمعدل الأعلى للفائدة الذي طلبه المستثمرون مقارنة بسعر السندات فيما يطلق عليه سوق "وقت الإصدار" قبل البيع.
وفيما اعتُبر تبسيطاً مفرطاً، وصف إستراتيجيّو أسعار الفائدة في "بي إم أو كابيتال ماركتس" المزاد بأنه "باهت"، في مذكرة للعملاء. وهذا يقلل من شأن القضية، فضعف المزاد أدى إلى قفزة في عوائد سندات الخزانة بجميع آجالها.
ارتفعت عوائد السندات لأجل 10 سنوات، التي تُعد المعيار العالمي لتحديد تكاليف الاقتراض للحكومة والشركات والمستهلكين، إلى أعلى مستوى لها منذ فبراير، متجاوزة المستويات التي دفعت الرئيس دونالد ترمب في أوائل أبريل إلى التراجع عن خطته التعريفية المتشددة.
وقال ترمب للصحفيين في ذلك الوقت: "الأسواق خرجت قليلاً عن السيطرة... أصابها بعض التوتر، وبعض الخوف".

اضطراب الأسواق يتسع: الأسهم والدولار يتراجعان

كما في أبريل، لم تكن سوق السندات وحدها "المتوترة قليلاً". فقد هبط مؤشر "إس آند بي 500" إلى أدنى مستوياته خلال اليوم التالي بعد المزاد، وتراجع بما يصل إلى 1.51%. كما تلقى الدولار ضربة، إذ انخفض مؤشر "بلومبرغ" لقياس أداء الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية بنسبة وصلت إلى 0.57%.
لكن وعلى عكس أبريل، فإن الاضطرابات الأخيرة لا تتعلق بالتعريفات الجمركية، بل بالتدهور المتسارع في الوضع المالي للولايات المتحدة، في ظل استمرار الخلافات بين المشرعين في الكونجرس حول مشروع قانون الموازنة، وهو ما سيُبقي العجز قرب مستوياته القياسية لسنوات مقبلة، ويزيد من عبء الديون الثقيلة بالفعل.
وبحسب زميلي في "بلومبرغ أوبينيون" جاستن فوكس، فإنه إذا تم إقرار مشروع قانون الضرائب والإنفاق بشكله الحالي، والجاري العمل عليه من قبل الجمهوريين في مجلس النواب، فإن العجز بعد عشر سنوات سيبلغ نحو 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لأحدث تقديرات مكتب الميزانية في الكونجرس. وهذا رقم لافت، إذ أن العجز الفيدرالي حالياً يبلغ 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى غير مسبوق إلا في أوقات الحروب أو الأزمات الكبرى.

"الاحتياطي الفدرالي" قد يتدخل

من هذا المنطلق، من الطبيعي أن يطالب المستثمرون بعوائد أعلى مقابل إقراض الحكومة الأمريكية. فمجلس النواب ومجلس الشيوخ، الخاضعان لسيطرة الجمهوريين، لا يظهران جدية واضحة في الحد من الديون والعجز، وهو ما يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية للمقرضين.
وكتب ستيفن بليتز، كبير اقتصاديي الولايات المتحدة في شركة "تي إس لومبارد" (TS Lombard) في مذكرة بتاريخ 21 مايو: "لقد اختفت الادعاءات الجمهورية بشأن الانضباط المالي. لا يزال الاختلال الجوهري بين النفقات والإيرادات قائماً، لأن الولايات المتحدة ترفض فرض ضرائب كافية لتغطية ما وعدت به، أو ترفض التراجع عن تلك الوعود".
وأشار بليتز أنه إذا ابتعد عدد كافٍ من المشترين عن المزادات، فقد تضطر وزارة الخزانة إلى تعديل قواعدها للسماح للبنوك بحيازة مزيد من سندات الخزانة، أو قد يتعين على الاحتياطي الفيدرالي التدخل وشراء ديون الحكومة عبر التيسير الكمي.
أما وزير الخزانة الأسبق ستيفن منوتشين، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ عبّر عن قلقه البالغ من العجز في الموازنة أكثر من العجز التجاري. وقال منوتشين خلال جلسة نقاشية في منتدى قطر الاقتصادي يوم الأربعاء: "أنا قلق جداً. العجز في الموازنة مصدر قلق أكبر لي من العجز التجاري. لذا، آمل أن نحصل على مزيد من تخفيضات الإنفاق، هذا أمر بالغ الأهمية".
مزيد من الديون... مزيد من القلق

مع الأسف، فإن أي تخفيضات في الإنفاق قد يتضمنها مشروع القانون الجديد لن تكون كافية لتعويض التخفيضات الضريبية المقترحة. وهذا يعني المزيد من الديون.
فحتى دون المشروع الجديد، كان من المتوقع أن يرتفع الدين الفيدرالي المحتفظ به من قبل العامة، من نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى 117% بحلول عام 2034. أما مشروع مجلس النواب، فسيُفاقم هذا الرقم ليصل إلى 125%.
وقالت وكالة "موديز" في بيان يوم الجمعة: "فشلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة والكونجرس في التوصل إلى إجراءات لكبح العجز المالي السنوي الكبير وتكاليف الفائدة المتزايدة. لا نعتقد أن المقترحات المالية الحالية قيد الدراسة ستؤدي إلى تخفيضات جوهرية متعددة السنوات في الإنفاق الإلزامي والعجز.

المزاد يُقلق الأسواق رغم هامشيته

ما جعل مزاد يوم الأربعاء مثيراً للقلق بشكل خاص هو أن مزادات سندات الـ20 عاماً عادةً ما تكون الأقل أهمية. فقد أعادت وزارة الخزانة طرح هذا الأجل في 2020 لأول مرة منذ الثمانينات، وهذه السندات لا تُتداول بكثرة كما هي الحال مع آجال أكثر شيوعاً مثل السندات لأجل سنتين أو 10 سنوات.
وكتب بيتر بوكفار، إستراتيجي مستقل، في مذكرة للعملاء: "أنا لا أكتب عادة عن مزاد السندات لأجل 20 عاماً، لأنها تشبه الطفل الضائع في ملعب أدوات الدين، حيث لا ينخرط كثيرون بهذه الفئة".
لكن حتى مع ذلك، فإن النتائج الضعيفة لهذا المزاد فرضت ضغوطاً على مزادات الأسبوع المقبل التي تشمل سندات لأجل سنتين و5 و7 سنوات، وهي آجال أكثر أهمية بكثير.
وإذا جاءت نتائج تلك المزادات مشابهة، فذلك لن يؤدي إلا إلى تفاقم فكرة "بيع أمريكا" عالمياً بشكل متزامن. لا تتوقعوا أن يختفي هذا القلق قريباً.

خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي