سردية الحديقة والأدغال
أظن أن القارئ اللبيب قد مر ناظره على مصطلح "السردية" في متابعته لهذا العمود. أكثر من استخدامه لأننا قد نغفل عن معرفة أنفسنا ومعرفة العالم حولنا في غياب الأدوات التي تؤشر إلى السردية الخاصة بالطرائق التي بوساطتها نعبر عن حدث ما أو شخص ما أو ثقافة ما وهلم جرا.
وما السردية يا ترى؟ في الإنجليزية نطلق عليها مصطلح narrative وهو مفهوم له من المقومات النظرية والمنهجية ما يجعله فرعا مهما في العلوم الاجتماعية.
السردية باختصار شديد تشير إلى ما نستخدمه من توصيفات، عند الحديث أو الكتابة أو التصوير الثابت والمتحرك، لسرد الأحداث والشخوص الواقعين فيها.
إذا السردية في الواقع هي توصيف مكرر لتثبيت وجهة نظر محددة فيها نفسر موقفنا من الحدث وما ينطويه من شخوص ما يحمله هؤلاء من ميول وما هم عليه من ثقافة.
في الظاهر هذا أمر بريء. نحن نستخدم اللغة أو السردية المرافقة لها من أجل التعبير عن آرائنا، أليس كذلك؟
بيد أن الواقع يختلف جذريا عما قد يدور في مخليتنا عن الدور الذي تلعبه السردية، أي التوصيفات التي نقدمها لتيبان وجهات نظرنا.
من ثم، السردية ليست بالبراءة التي نتصورها. لا ضير في أن يكون لكل واحد منا أو لكل مجتمع أو ثقافة سرديته الخاصة. في الحقيقة هذه هي طبيعتنا البشرية، بمعنى أننا كأفراد أو مجتمعات أو ثقافات نحمل سرديات مختلفة.
ما المشكلة إذا؟ المشكلة تكمن في عنوان المقال، الذي يشير إلى سرديتي وكأنها حديقة غناء وإلى سردية الآخرين وكأنها أدغال أو غابة من الأشواك.
الحديقة فيها الزهر والورد وإن داعب نسيمها وجوهنا قلنا إنه المسك، وأفضل عمل حسن نقوم به هو أن نقلع الأدغال ونحول الأرض إلى بستان، وشتان بين البستان والدغل.
إن أردت أن تحافظ على الحديقة فما عليك إلا تخليصها من الأدغال والشوك. قد تلجأ إلى القلع بيدك، وقد تلجأ إلى المبيدات الزراعية ومنها الحشرية والكيميائية.
أليس هذا ما تنطق بها السرديات التي ترافق عالمنا وعلى الخصوص في الأيام هذه؟
لو عمقنا النظر في الذي نقرأه ونسمعه ونشاهده هذه الأيام لدخل الهلع إلى قلوبنا لأن سردية الحديقة هي في الحقيقة سردية الأدغال والشوك وسردية الأدغال أقرب إلى الزهر والورد.
أليس الأقوياء هم أصحاب السردية الذين يرون أنهم يعيشون في حديقة غناء نسيمها المسك وأن عليهم اقتلاع الشوك والأدغال ليس من حديقتهم بل من أي بقعة أخرى.
مشكلة السردية هي أنه رغم فظاعة وبشاعة واقعها والتوصيفات التي ترافقها من العسر أو ربما من المستحيل تغيير قناعات أصحابها حتى إن كانت الكتابة على الحائط تصرخ في وجههم أنهم على باطل وأن رائحة نفاقهم وكذبهم وافترائهم وازدواجية معاييرهم صارت تزكم الأنوف.
أصحاب سردية الحديقة في الغالب على أشكالهم يقعون، فتراهم يهرعون إلى تبني الأطر اللغوية التي تعكس اتخاذ المواقف السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية ذاتها إن كانوا ظالمين، وهم في الغالب كذلك، ومظلومين، وأنهم من النادر كذلك.
أصحاب سردية الحديقة، وما أدراك ما هؤلاء، يخنقون أي سردية تعارضهم في مهدها لأنهم الأقوياء ويؤمنون بتفوقهم وسموهم وأفضليتهم وأن معارضيهم ليسوا إلا بذرة من البذور التي تحملها الريح إليهم من الأشواك في الأدغال.
سردية الحديقة والأدغال سردية مخيفة حقا، ونحن الذين عشنا الحروب والصراعات في قرننا هذا، القرن الـ21، شهود لها في أكثر من منطقة وعلى الخصوص في الشرق الأوسط.
سردية الحديقة ترافق الجحافل العسكرية الجبارة التي تغزو وبأقدامها تدوس كل دغل "بشر" يعترض طريقها وإن قاوم هو مجرد دغل مع سرديته.
في سردية الحديقة، كل زهر وورد له شارة وتاريخ ومكانة، في سردية الأدغال، كل شوك لا يساوي فلسا، لأن لا تاريخ ولا شارة ولا مكانة له؛ لا يستحق إلا جمعه ورميه في التنور لكي يحترق.
أو ليس هذا ما نشاهده بأم أعيننا من شاشات أجهزتنا الرقمية هذه الأيام؟ أو ليس نعيش في عالم فيه سرديتان لا تلتقيان، وهما سردية الحديقة، سردية الأقوياء، وسردية الأدغال، سردية الضعفاء.
لكن مهلا، التاريخ يعملنا أن الفئة القليلة والضعيفة تغلب الفئة الكثيرة والقوية، والإمبراطوريات الكبرى لم تسقط إلا على يد الضعفاء.