الدول العربية ونشر المعرفة

في سلسلة مقالاتنا عن المعرفة وعلاقتها باللغة الأم -وهنا أقصد لسان الضاد- عرجنا على مفاهيم عديدة، ووعدت قرائي الكرام بأن أسلط الضوء عليها لأهميتها في تنمية الأمم وتطورها ورقيها وتمكنها من ناصية الحضارة والتمدن.
حتى الآن أحجمت عن تقديم تعريف محدد للمعرفة. آن الأوان أن نقول: ما هي المعرفة؟ في غياب تعريف ولو على مستوى مبسط، نجعل من أي نقاش علمي رصين يفقد بوصلته ويخرج عن سياقه.
وتأكيدي على التعريف مرده سببان: الأول، لتشخيص دور اللغة في تكوين وإيصال المعرفة. الآخر، للتأكيد على دور التربية والتعليم في نهل المعرفة.
إذا ما هي المعرفة يا ترى؟ المعرفة هي الحقائق والمعلومات والمهارات التي نكتسبها من خلال التجربة أو التربية والتعليم؛ وإدراكنا للمعرفة له شقان: شق نظري، وشق تطبيقي.
والمعرفة لها خصائص كثيرة، لن أتطرق إليها حاليا، بل أتركها لمناسبة أخرى، لكن أهم خاصية لها هي عدم ديمومتها على المستويين النظري والتطبيقي؛ بمعنى آخر، نحن كبشر في بحث دائم لتطوير النظرية الخاصة بالمعرفة، وكذلك تحسين تطبيقنا لها.
والخاصية الأخرى التي أود التأكيد عليها تتعلق بالمدة الزمنية التي نستغرقها كبشر لاكتشاف المعرفة وتنظيرها واكتسابها، والمدى الذي يستغرقه كل ذلك.
لو نظرنا بتمعن في كيفية تعامل البشر مع المعرفة، لتوصلنا إلى فرضية يؤكدها الزمن ويبرهن عليها التاريخ. يتفق أغلب علماء التاريخ والآثار والأجناس البشرية ومعهم أغلب الفلاسفة والمفكرين، على أن البشر يقلصون الفترة التي يستغرقها اكتشاف المعرفة وتنظيرها واكتسابها وتطبيقها بمرور الزمن.
لنأخذ تاريخ الإنسان المعاصر كما نعرفه اليوم. ماذا سنلاحظ؟ في مسيرته التي تعود إلى نحو 200 ألف عام هناك انحسار في الزمن الذي يستغرقه في التحول من إطار نظري وتطبيقي paradigm إلى آخر بمرور الزمن.
تزداد سرعة التحول من إطار معرفي إلى آخر في غضون الـ200 ألف عام الماضية. في البداية العبور من إطار معرفي إلى آخر كان يستغرق عشرات الآلاف من الأعوام حتى وصلنا إلى نحو منتصف القرن الـ18 بانفجار الثورة الصناعية الأولى عند اكتشاف الآلة البخارية.
ومنذ حينه تسارعت وتيرة الانتقال من إطار معرفي نظري وتطبيقي إلى آخر، وتقلصت المسافات بين المعرفة القديمة -الحقائق والمعلومات والمهارات التي اكتسبناها من خلال التجربة أو التربية والتعليم- والمعرفة المضافة أو الجديدة التي نحصل عليها.
ورافقت كل هذا زيادة مطردة وكبيرة في إدراكنا شقي المعرفة، النظري منها والتطبيقي، حيث صرنا نحرق مراحل هضمنا للأطر النظرية والتطبيقية للمعرفة، وصرنا أمام وضع بالكاد لنا فيه إلمام -أو قد لا يكون لنا أي إلمام فيه- بما تنتجه القريحة البشرية من حقائق ومعلومات ومهارات، ليس على مدار القرون أو العقود أو الأعوام بل، على مدار الأشهر.
وكي نبقى ضمن سياق موضوعنا المهم هذا، علينا إثارة سؤال مهم عن مصدر المعرفة واللغة التي تنشر بها؛ ودوما يجب ألا ننسى أن اللغة هي الوسيلة الرئيسة التي بوساطتها نكتسب المعرفة مع الحقائق والمعلومات والمهارات التي تقدمها لنا بشقيها النظري والتطبيقي.
المعرفة اليوم تقريبا في مجملها تكتنفها صفحات المجلات الأكاديمية المحكمة، واليوم يربو عددها على 47 ألف مجلة في العالم. وإن أخذنا معدل عدد الأبحاث العلمية المنشورة سنلاحظ تطورا مذهلا يقع أمام ناظرنا وهو أن كل مجلة علمية محكمة -محكمة على الأسس المتبعة في الجامعات الغربية الرصينة- تنشر نحو 100 بحث في العام.
ويجب التذكير بأن كل بحث في مجلة محكمة من هذا النوع لا بد أن يكون في متنه إضافة معرفية جديدة -نظرية أو تطبيقية- كي يستحصل على موافقة التحكيم العلمي الأعمى، المزدوج في أقل تقدير، لفحص جودة الناتج العلمي.
وكم بحثا علميا تنشره هذه المجلات؟ في آخر إحصائية لدي، نشر الباحثون والأكاديميون أكثر من خمسة ملايين بحث علمي في 2022، نحو 200 ألف منها فقط مصدرها الدول العربية.
لن أدخل في مضمار معدل عدد سكان الدول العربية بالنسبة إلى كل ألف بحث، لأن أي مقارنة مع الدول الأخرى ستظهر هوة ساحقة. قد نأتي إلى ذلك مستقبلا.
لكن ما يحز في النفس هو الغياب التام تقريبا للمجلات العلمية العربية المحكمة والمعتمدة عالميا. ليس هذا فقط، هناك غياب تام تقريبا للاستشهادات في المجلات المحكمة عالميا التي مصدرها مجلات علمية عربية.
اللغة الإنجليزية لا تزال طاغية في النشر العلمي، على الرغم من دخول لغات أخرى حلبة منافستها على قدم وساق، ويؤسف غياب اللغة العربية دخول المعترك. من مجموع المجلات العلمية الرصينة المتداولة في العالم هناك اليوم نحو 12 ألف مجلة بلغات غير الإنجليزية. كم مجلة علمية عربية محكمة على مستوى العالم من ضمنها؟ لست أدري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي