هل نحن مستعدون للتداول السريع؟

تتخذ هيئة السوق المالية في السعودية خطوات جريئة نحو تحديث السوق المالية ضمن رؤية السعودية 2030، ومن أبرز هذه الخطوات الأخيرة السماح لمواطني دول الخليج بالتداول المباشر، وقريباً فتح السوق بشكل كامل أمام الجميع، لكن مع هذا التوسع في قاعدة المشاركين يزداد سقف التوقعات من المستثمرين المحترفين ومديري الأصول وصناديق التحوط العالمية، الذين لا يرضيهم بطء الأنظمة أو ضعف البنية التحتية، بل يبحثون عن أدوات متقدمة، تشمل التداول الخوارزمي وتقنيات التداول فائق السرعة، ما يعرف بالتداول المتكرر عالي السرعة HFT.
ورغم عدم وجود أي شيء رسمي حول هذا التوجه، إلا أن إشارات وتلميحات صدرت عن الهيئة وتداول فيها إشارات عن اهتمامهما بهذا الجانب في سبيل تطوير السوق المالية ورفع جاذبيتها، حيث أشارت بعض التقارير الصحفية إلى أن الهيئة منفتحة على دراسة هذا النوع من التداول، وأن هناك دراسات لتوفير البنية التحتية اللازمة لهؤلاء المتعاملين.

ما التداول فائق السرعة؟ ولماذا الاهتمام به؟ وهل تقدمه أسواق أخرى غير الأمريكية؟ وهل يستفيد منه المتداول الفرد؟ وما أهمية وجود أجهزة المتداولين بالقرب من مبنى "تداول"؟ وهل من فرص عقارية لإيجاد مقار قريبة من مبنى "تداول"؟
التداول فائق السرعة هو استخدام أنظمة حاسوبية فائقة الأداء، إضافة إلى بُنى تحتية شبكية سريعة وخوارزميات برمجية متقدمة، لتنفيذ عدد هائل من الأوامر خلال أجزاء قليلة من الثانية، ومحاولة القيام بذلك قبل الآخرين، وهنا يكمن التحدي التقني، فكيف يمكن لأحد أن يسبق غيره في الوصول إلى أجهزة "تداول"؟ أليس في ذلك إجحاف لمن لا يمتلك التجهيزات اللازمة للدخول في هذا السباق؟ ثم لو كان الجميع لديه التجهيزات اللازمة، ألا تنتفي بذلك الحاجة إلى هذه الأجهزة والشبكات السريعة طالما أن الجميع سواسية ومتساوون في أحقية الوصول؟
الحقيقية إن دولا كثيرة تطرقت لهذه القضية، ورغم الجدل واختلاف الآراء إلا أنه لا توجد إشكالية في ذلك، طالما أن الجميع لديه الفرصة للاستفادة من هذه الترتيبات، ولذا تقوم بورصات كثيرة، في أمريكا وأوروبا والهند واليابان وكوريا وسنغافورة، ودول أخرى ليس منها أي من دول الخليج ولا الدول العربية، بتقديم خدمات استضافة برسوم عالية نسبياً، حيث تتحصل المؤسسة المالية على رف خوادم خاص بها داخل مركز بيانات البورصة، ما يعني أن لدى تداول السعودية فرصة لتحقيق إيرادات كبيرة من هذه الخدمات.

ما الفائدة من تركيب خوادم الجهة الراغبة في التداول السريع داخل مركز بيانات "تداول"؟
جوهر التقنية هذه يكمن أولاً في سرعة الوصول إلى محركات مطابقة الأوامر، وهي البرامج التي تقوم بإدارة أوامر البيع والشراء في سجلات الأوامر لدى "تداول"، وثانياً إن جوهر هذه التقنية يتعلق بطبيعة الخوادم المستخدمة وجودة البرمجيات المزودة بها، أي إن مصدر الميزة يكمن أولاً في حق الوصول العادل إلى محرك مطابقة الأوامر، ويتبقى التنافس على جودة الخوادم المستعملة وما تحتويه من برمجيات سرية خاصة بالمؤسسة المالية. هنا تجدر الإشارة إلى أن السرعة التي نتكلم عنها هي في أجزاء قليلة من الثانية (مايكرو ثانية)، لذا تقوم البورصة بضمان عدم تميز موقع خادم جهة عن أخرى، وهذا ليس بالأمر الهين، فحتى فارق عدة سنتيمترات لجهاز جهة عن أخرى يعتبر أمرا مرفوضا تماماً، لذا هناك ترتيبات معينة تضمن تساوي الطول بلف الكيبل حول نفسه وتوصيل جميع الكابلات بمقسمات عالية السرعة موصلة بالسيرفرات الرئيسية، وإرفاق ختم زمني دقيق مع كل عملية.
الفائدة من ذلك أن هناك برمجيات للتداول تقوم بتنفيذ الأوامر بنفسها، فهي مبرمجة على أساس اتخاذ قرارات سريعة بناء على الإستراتيجية المتبعة من قبل الجهة، وهي ليست الإستراتيجيات العامة التي تعتمد على الأخبار والذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك من تطورات اقتصادية ومالية، بل إنها تركز على وسائل التداول نفسها وأسعار الأسهم وأحجام التداول وتباين الأسعار بين المؤشرات والصناديق المتداولة ومكوناتها من أسهم وغيرها، بحيث يتم استغلال أي فجوات في أسعارها، أو فروقات بين بيانات العرض والطلب، أو أي دلالات متعلقة بحركة الأسعار وتنفيذ الصفقات.
هل من مجال للعقاريين للاستفادة من الوجود قرب مبنى "تداول"؟ الجواب إن الفائدة محدودة جداً، لأن القرب المكاني لا يعني الشيء الكثير، فالوصول إلى مركز البيانات يتطلب خدمات شبكية من قبل شركات الاتصالات، التي كي تقوم بإيصال البيانات إلى مركز "تداول" الواقع ربما على بعد عشرات الأمتار قد تحتاج إلى قطع مسافات طويلة داخل شبكة مزود الخدمة، وأحياناً تضطر إلى التوجه إلى خارج السعودية إن لم يكن لديها ارتباط بأحد مقاسم الإنترنت national peering، لذا لا توجد طريقة إلا الوجود داخل مركز بيانات البورصة. كما أن المتداولين من الأفراد يمكنهم الاستفادة من هذه السرعات عبر الوسطاء الذين لديهم مثل هذه التجهيزات.
إذاً من المتوقع أن تقوم "تداول" بتقديم خدمة الوجود المشترك، تأجير الخوادم داخل مركز بياناتها، وهذه ليست مجرد ميزة إضافية بل إنها ستصبح عنصراً أساسياً لجذب السيولة ورفع كفاءة السوق، وبدونها لن تستطيع "تداول" مقارعة البورصات الأخرى في تقديم تلك الخدمات المتطورة. مرة أخرى، هذه المساحات المخصصة داخل مراكز البيانات ليست للبشر، بل هي أماكن لتنافس الأجهزة وبرمجياتها على الوصول إلى محركات مطابقة الأوامر تحت ظروف متساوية وعادلة للجميع.
ومع تطور السوق المالية ستُطرح تساؤلات حول جاهزية البنية التحتية والتوازن بين التقنية والعدالة، ومع ذلك فدعم التداول فائق السرعة لا يعني تفضيل فئة على أخرى، بل هو اعتراف بأن الأسواق الحديثة أصبحت - شئنا أم أبينا – محكومة بالخوارزميات والبرمجيات والأجهزة فائقة السرعة، ومن لا يواكب هذا التغير، قد يفقد موقعه في خريطة السيولة العالمية.

مختص بالأسواق المالية والاقتصاد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي