الغذاء المستدام .. المفهوم والواقع
تقف الأغذية والزراعة اليوم على مفترق طرق، رغم كل التحسينات الضخمة في الإنتاجية الزراعية على مدى العقود الأخيرة لمقابلة تنامي الطلب المتزايد على الغذاء في العالم، فالتحسينات، التي تمت في الإنتاجية كانت على حساب زيادة التكاليف الاجتماعية والبيئية، بما في ذلك ندرة المياه، وتدهور التربة، وإجهاد النظام البيئي، وفقدان التنوع البيولوجي، وتناقص المخزونات السمكية وغطاء الغابات، وارتفاع مستويات انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. لقد أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى ضرر كبير لقاعدة مواردنا الطبيعية في عديد من الأماكن حول العالم.
وفي تقرير على موقع برنامج الغذاء العالمي، فإن حجم أزمة الجوع وسوء التغذية العالمية الحالية هائل، حيث يواجه أكثر من 345 مليون شخص مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي في 2023، وهو رقم أكثر من ضعف العدد في 2020، وهناك ارتفاع مذهل يبلغ 200 مليون شخص، مقارنة بما قبل COVID - 19، وفقا لما نشره مركز الغذاء العالمي، كما يكافح آلاف الأشخاص في جميع أنحاء العالم من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل جوع كارثي وعلى بعد خطوة واحدة من المجاعة.
وفي العالم اليوم يعاني شخص واحد من بين ثلاثة أشخاص سوء التغذية، بما عده تقرير منظمة الفاو انعكاسا لعدم توازن النظام الغذائي في العالم، وترى المنظمة أن الجوع وانعدام الأمن الغذائي خاصة رفعا حركات الهجرة إلى مستويات غير مسبوقة من أكثر من 70 عاما، نظرا إلى محدودية الوصول إلى الأراضي والموارد مع تصاعد الأزمات والصراعات والكوارث، وتغير المناخ. وبهذا الوصف الدقيق لحالة الغذاء العالمية اليوم تطالب منظمات عديدة حول العالم بالعمل من أجل تحقيق الاستدامة في الغذاء، وقد وضعت منظمة الفاو من أجل ذلك أهدافها للتنمية المستدامة المتعددة، حيث يتغذى الأطفال بشكل صحيح، ويمكنهم التعلم، حيث تكون الأجيال الحالية والمستقبلية قادرة على إطعام عدد متزايد من السكان. لكن على الرغم من وضوح أهداف التنمية المستدامة إلا أنه لا يوجد تعريف دقيق لـ"الغذاء المستدام"، لكن هناك تعريفات غير رسمية لبعض المنظمات النشطة في هذا المجال، تصف الغذاء المستدام بأنه الطعام الجيد الذي تم إنتاجه اقتصاديا ومعالجته وتوزيعه والتخلص منه بطرق تسهم في حماية تنوع النباتات والحيوانات، مع تجنب إتلاف أو إهدار الموارد الطبيعية أو المساهمة في تغير المناخ.
في هذا السياق، ركز تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا، على ما يمكن أن تقدمه زراعة الأعشاب البحرية من دعم للتعريف الأخير لمفهوم الغذاء المستدام، فزراعة الأعشاب البحرية أصبحت أحد القطاعات الاقتصادية، التي تنمو بسرعة في صناعة الزراعة المائية، وأشار تقرير نشرته منظمة الفاو إلى أن التجارة العالمية في الزارعة المائية القائمة على الأعشاب البحرية قد تجاوزت في 2019 مبلغ 5.6 مليار دولار، أسهمت فيها صادرات من 98 دولة من بينها الصين، إندونيسيا، اليابان، جمهورية كوريا، الفلبين، كوريا الشمالية، ماليزيا، تشيلي، وسريلانكا.
وفي تقرير للأونكتاد فقد تضاعفت السوق العالمية أكثر من ثلاثة أضعاف في عقدين من الزمن، حيث نمت من 4.5 مليار دولار في 2000 إلى 16.5 مليار دولار في 2020، ويشير التقرير إلى أن قيمة سوق الأعشاب البحرية العالمية قد تصل إلى ما يقارب 25 مليار دولار بحلول 2028، بينما تمثل آسيا نحو 97 في المائة من الإنتاج العالمي للأعشاب البحرية، بوجود 41 استثمارا لشركات ناشئة في تلك الدول العام الماضي، بارتفاع عن 2021، إذ بلغت قيمتها 120 مليون دولار.
فالأعشاب البحرية أو الطحالب الكبيرة، وهي من المواد الغذائية الأساسية في اليابان وكوريا والصين منذ 800 قبل الميلاد على الأقل، غنية بالبروتينات، كما أنها تمتص الكربون الموجود في الجو، ويمكن زراعتها في مياه المحيط دون الحاجة إلى الأسمدة أو المبيدات. ويمكن لبعض الأصناف منها، عند إضافتها إلى علف الماشية، أن تقلل بشكل كبير من كمية غاز الميثان، وهو أحد غازات الدفيئة القوية، الذي ينبعث من الأبقار، فهذا المزيج من الخصائص الصديقة للبيئة يحقق بشكل واضح تعريف الغذاء المستدام، فهو طعام جيد، وصديق للبيئة، فهو يعزز من نمو "الاقتصاد الأزرق".
الاقتصاد الأزرق هو اقتصاد المحيطات، الذي قدرت قيمة صادرات السلع المستندة إلى المحيطات - بما في ذلك مصايد الأسماك والمأكولات البحرية والسفن ومعدات الموانئ - والخدمات مثل الشحن والسياحة الساحلية بنحو 1.3 تريليون دولار في 2020. ووفقا للبنك الدولي، فإن الاقتصاد الأزرق هو التنمية المستدامة والمتكاملة للقطاعات الاقتصادية في محيطات صحية، وفي تقرير لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، فإن الأنشطة الاقتصادية للمحيطات سجلت تسارعا ملحوظا، وتوقع التقرير أنه يمكن أن يتضاعف حجم هذا الاقتصاد من 1.5 تريليون دولار في 2010 إلى ثلاثة تريليونات دولار في 2030، ويعد التقرير تربية الأحياء المائية البحرية، ومصايد الأسماك البحرية، وتجهيز الأسماك البحرية، والرياح البحرية وأنشطة الموانئ قادرة على التفوق في الأداء على الاقتصاد العالمي، ولا يزال من المرجح أن ينمو الطلب على المدى الطويل على المصادر البحرية للأغذية، ما يتطلب - وفق تقرير المنظمة العالمية - تعزيز التعاون بين علوم المحيطات وصناعة المحيطات، وتحسين جمع البيانات البحرية ونشرها، للمساهمة في الحفاظ والاستخدام المستدام للنظم الإيكولوجية البحرية.
من منطلق هذا التقرير عن الاقتصاد الأزرق واستدامة المحيطات، فإن العلاقة تبدو واضحة بين الزراعة المائية خاصة الأعشاب البحرية والاقتصاد الأزرق، وأنهما يشكلان معا قاعدة أساسية لتحقيق مفهوم الغذاء المستدام، ومن هذا التعاون المثمر تظهر الفرص الاقتصادية الكبيرة من بينها ما تعمل عليه شركة نورديك سيفارم في المياه الغنية بالأكسجين والمغذيات قبالة سواحل السويد، حيث قامت بترخيص ستة هكتارات من المحيط من الحكومة لزراعة الطحالب البنية على حبال يتم ربطها بالمراسي، وتنتج العملية نحو 80 طنا من الأعشاب البحرية سنويا، كما تقوم الشركة أيضا بزراعة هكتارين من نبات أولفا، المعروف باسم الخس البحري، بدعم من صندوق بلو إنفيست التابع للاتحاد الأوروبي، الذي يمول التكنولوجيات البحرية المستدامة. هذا الاتجاه من التعاون بين الاقتصاد الأزرق وبين الزراعة المائية سيحرر نحو 110 ملايين هكتار من الأرض، أي ما يعادل ضعف مساحة فرنسا. ويقدر أن نحو 650 مليون هكتار من مياه البحار العالمية يمكن أن تدعم إنشاء مزارع للأعشاب البحرية.
وأخيرا بقي القول إنه لا بد من تحقيق مفهوم الغذاء المستدام ليسهم في حماية تنوع النباتات والحيوانات، مع تجنب إتلاف أو إهدار الموارد الطبيعية أو المساهمة في تغير المناخ، ولا بد لصناعة الأعشاب البحرية أن تنجح في هذا الاختبار، قبل أن تصبح عنصرا أساسيا في منظومة الغذاء المستدام.