هل قلل العالم من قدرات أوروبا؟
مع بداية الحرب الروسية - الأوكرانية التي أثرت بلا شك تأثيرا كبيرا في شرايين الطاقة العالمية وأسواقها، كون أحد طرفيها، وأعني هنا روسيا، تعد من أكبر منتجي النفط والغاز في العالم. مع بداية هذه الحرب توقع كثير من مراكز استشراف المستقبل، وبيوت الخبرة العالمية شتاء قاسيا جدا لأوروبا بسبب شح الطاقة، فهل حدث ذلك؟ أم كان هناك بعض من المبالغة حول ما حدث وأثره في العالم عموما وفي أوروبا خصوصا؟ عند بداية الأزمة رأينا سعيا حثيثا وجادا من بعض دول القارة لحظر صادرات النفط الروسية، وإن كان هناك تباين واضح من الدول حول التعاطي مع هذا التوجه، فاعتماد دول أوروبا على النفط والغاز الروسيين متباين، حيث إن الدول الأقل اعتمادا على شرايين الطاقة الروسية هي الأكثر حدة وصرامة في المطالبة بإنزال أشد العقوبات الاقتصادية على روسيا، وفي مقدمتها حظر صادراتها النفطية.
ذكرت سابقا أن الدول الأشد حاجة إلى منتجات الطاقة الروسية وعلى الرغم من رغبتها في تضييق الخناق على روسيا، إلا أن هناك مصالح تغير موازين التعامل مع هذا الملف الحيوي بل الوجودي، حيث تسعى هذه الدول جاهدة إلى التملص من هكذا قرارات وتبعاتها الاقتصادية التي لا تتحملها لعدم وجود البديل الجاهز، إما لوجستيا وإما اقتصاديا. إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا هي قضية معقدة جدا تحكمها عوامل اقتصادية وسياسية وجيوسياسية بل اجتماعية، ومصالح ترتقي إلى أن تكون مصالح وجودية، لذلك شاهدنا تباينا أوروبيا في التعاطي مع هذا الملف.
الأوضاع لم تكن سهلة أبدا على أوروبا، ولن تكون كذلك على المديين القصير والمتوسط، حيث إن ملامح أزمة الطاقة في أوروبا لم تظهر متأخرة، بل بدأت الظهور قبيل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عندما تحركت أرتال من الجيش الروسي إلى الحدود الأوكرانية، حيث دفعت هذه التحركات إلى ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات مرتفعة خشية من تأثر سلامة إمدادات الطاقة عبر شرايين الطاقة الروسية. روسيا ثاني منتج للنفط الخام في العالم بنحو 11 مليون برميل يوميا، وبصادرات تبلغ نحو سبعة ملايين برميل يوميا، وهي أيضا أكبر مصدري الغاز في العالم بما نحو 238.1 مليار متر مكعب، بفارق كبير عن أقرب منافسيها الولايات المتحدة، التي تحل في المرتبة الثانية بنحو 137.5 مليار متر مكعب.
هذا يبرر سلوك أسواق الطاقة وارتفاع الأسعار، فالحديث هنا ليس عن سلامة إمدادات الطاقة لكميات غير مؤثرة من النفط والغاز، خصوصا إذا ما علمنا أن جل هذه الصادرات هي من نصيب أوروبا التي يتباين اعتماد دولها على شرايين الطاقة الروسية بين اعتماد خفيف يمكن التعامل مع تبعات توقفها، وبين اعتماد شبه مطلق لا يمكن لصانعي القرار تجاهله أو التعاطي معه دون الإضرار باقتصادات دولهم.
من أهم مؤشرات أزمة الطاقة الأوروبية عودة بعض دول القارة إلى استخدام الفحم في توليد الطاقة، وانحسار هجومها العنيف على النفط والاستثمار في صناعته، وقد تكون هدنة مؤقتة! أرى أنه رغم صعوبة الوضع على أوروبا بسبب إمدادات الطاقة الروسية، إلا أن الشتاء قد مر عليها، لكن السؤال الأهم: كم شتاء تستطيع أوروبا تجاوزه في حال استمرار الأزمة كما هي؟