Author

خسائر النزاع المفترض

|

أصدقاء وصلوا إلى نقطة لا توافق جوهرية، "يتقاطعون"، تتجمد بينهم العلاقة وينقطع التواصل، ستنتفي منهم صفة الصداقة القائمة على الاحترام والتوافق والتقدير والوصل، في الأغلب لن يلومهم أحد. أخوان يصلان إلى نقطة عدم التوافق، "يتقاطعان" ويتجمد التواصل بينهما، لن تنتفي عنهما صفة الأخوة، على الأرجح سيلومهما المقربون وينكر عليهما من هم أبعد. وليس الفرق هنا أن الصداقة هشة بينما الأخوة قوية، فالصداقة أحيانا أعمق وأنبل. الصداقة اختيار وليست واقعا نجد أنفسنا فيه، بينما الأخوة غير ذلك. تختلف ردة فعل الآخرين على قطع الصلة بين الأصدقاء أو الإخوة هو أن للصداقة قوانينها الخاصة بكل علاقة على حدة، إذ تحكمها الظروف والنشأة وهي إجمالا علاقة مرنة تقوم على الرغبات المتبادلة المحضة، بينما الأخوة هي أساسا رباط حيوي لا ننكره ولا نستطيع إلغاءه، نحترمه ولا نختاره، له قواعده وبروتوكولاته التي لا تتغير وفق الزمان والمكان، ويعمل كشبكة حماية معنوية نهوي إليه كلما اضطررنا إلى ذلك.
تمثل الخلافات الشخصية في مقار العمل نوعا آخر ومختلفا من القطع والتباعد. هي من مخربات علاقة الزمالة في أثناء أداء العمل، والعمل علاقة مهنية والاجتماعية. جزء من هذه العلاقة اختياري مثل الصداقة لنا حرية تصميمه وتنفيذه، وجزء منها مثل الأخوة، نجبر عليه ونجد أنفسنا فيه لكننا لا نستغني عنه. القواعد العامة متنوعة وتختلف حسب السياق، فالمراتب الهرمية تؤثر في طبيعة وفاعلية علاقة الزمالة، وتختلف أيضا العلاقة من قطاع إلى آخر، هناك قطاعات يعيش أفرادها كمجتمع مصغر ومترابط وهناك قطاعات وصناعات لا يعرفون بعضهم ولا يودون التعرف على غيرهم. وبالطبع هناك زمالات مهنية داخل المنظمة، مثل الموظف مع زميله الموظف، وهناك زمالات مهنية خارج المنظمة مثل علاقة البائع بالمشتري، والمورد بالمصنع، وأحيانا تشمل علاقة المشرع بالتجار كذلك. كل اختلاف يتحول إلى خلاف ويتطور إلى مقاطعة هو أمر مدمر لهذه العلاقات المهمة، ويدمر القيمة التي تصنع في هذه الأوساط، التي لا نستغني عنها أبدا.
يخرب الخلاف الشخصي "وما يتبعه من نزاع ومقاطعة وتباعد" العلاقة المهنية ويضيع القيمة التي تنتج عنها ويمثل خسارة للمنظمة التي تتأثر بذلك. وذلك لأن عمل المنظومات إجمالا "سواء كان منظمة واحدة، أو علاقة منظمة بغيرها" يقوم على التنسيق والتعاون والتكاتف، وهذه طبيعة العمل البشري الذي يصنع القيمة. فإذا انقطع سير التواصل اللغوي والمرئي بين إدارة وأخرى، لأن فلانا من الناس "يقاطع" فلانا، سيتعثر التنسيق، وسيصبح حل المشكلات أصعب، وستفقد المنظمة أهم مميزاتها وهي أن مجموع الأجزاء منتظمة أكبر من مجموعها منفردة أو الـSynergy الذي يطمح إليه الجميع.
من الخسارة تباعد فرصتين من فرص الأعمال وفقدانهما احتمالية التكامل لأن مدير المشروع الأول لا يتعامل مع الثاني، أو لأن كبير المهندسين أسلوبه مختلف ولا يعترف بقدرات المهندس الفني في الإدارة الأخرى. من أعظم تكاليف الفرص البديلة، أو الفرص المفقودة، التي تعيشها المنظمات ما يحدث بسبب ضعف التواصل. العلاقات الشخصية في مقار العمل عنصر مؤثر لا يستهان به، سواء كعنصر بناء وتعزيز وتقوية أو كعنصر تدمير وتفكيك وتهميش.
من أكثر ما يؤلم في مسألة وهن العلاقات الشخصية المهنية المؤثرة في القيمة والمنفعة المحتملة هو أن جزءا كبيرا منها مفترض، متوقع، نظن أنه يحدث لسبب لكنه نزاع دون أصول، خلاف دون معنى، تباعد دون أسباب. قد يمثل مجرد اندفاع خلف المزاج، أو مجرد تجمعات لا معنى لها سوى أن "الطيور على أشكالها تقع". وما يؤلم أكثر رؤية هذه النزاعات والتباعدات بين مهنيين محترفين، بين خبراء في مجالات عملهم، بين أفراد ملتزمين بكود الموضوعية والمهنية. قد يصعب الحكم والتعميم لكن دون أدنى شك هذه إحدى أكثر نقاط تداخل الهوى الشخصي بالسلوك المهني والعمل المؤسسي، تداخل مؤثر ومكلف. في كثير من الأحايين نجد أن نقطة الخلاف أو النزاع لم تدرس أو تحلل بشكل كاف، لم ينظر إليها أحد بغرض تفكيكها أي طرف. ما يسمح بتراكم الافتراضات والظنون. وخسارة الفرص والوقت. الزمالة المهنية لا تنشأ عن عملية توفيق اجتماعي اختياري، وإنما واقع نجد أنفسنا فيه، واحترامه يكون بالحفاظ عليه وتنميته لمصلحة العمل.

إنشرها