القدرة على التنبؤ .. معجزة أم مهارة

يقال إن من يجيد التنبؤ بالمستقبل يحقق الثراء المضمون، لكن يقال أيضا إن ذلك مستحيل. وهذا يثبته الواقع وناموس الحياة وتؤكده السنن الإلهية. ومع ذلك، يظل التنبؤ مطلبا وضرورة لمساندة الأدوار الحياتية المختلفة على الصعيدين الشخصي والعملي. لذلك سنجد كثيرا من الكتب والمقالات التي تتناول موضوع التنبؤ في مختلف المجالات، فالاقتصادي يحب الاسترسال فيه، والتنفيذي يبني خططه باستخدام توقعاته التي يراها محكمة أو منطقية، والأشخاص يخططون لحياتهم وفق ما يأملون ويحلمون بتحقيقه. ومن يبحث في هذا الموضوع يجد سؤالا مشابها لعنوان المقال، وهو: هل التنبؤ علم أم فن؟ ونحن نقول: هل التنبؤ معجزة مستحيلة أم مهارة قابلة للتعلم؟
بعيدا عن قدرات العقل البشري المحدودة بخصوص التنبؤ بالمستقبل وبعيدا عن المعجزات أو الخرافات، هناك كثير مما يستحق التعلم حول هذا الموضوع، على الأقل نحن نعلم أن صعوبته لا تعني تفاديه. تفادي عملية التنبؤ مخاطرة كبيرة لا يود أن يقع فيها أي أحد، سواء كان يتعامل مع ذاته أو غيره، سواء كان موضوع التنبؤ حدثا مستقبليا شخصيا أو ظروفا عالمية مؤثرة. أرى أن الأهمية دائما موجودة، لكن الجانب العملي للتنبؤ يضعف كلما زاد محور التنبؤ تعقيدا. فالتنبؤ على صعيد الفرد أو المنظمة أسهل من التنبؤ على صعيد الدولة أو المنطقة، والأخير أسهل بكل تأكيد من التنبؤ على صعيد الظروف والأحداث العالمية. تنبع أهمية التنبؤ من عدة جوانب، من ذلك صنع التصورات الخاصة بالمستقبل التي تفتح أبواب الاستعداد له، وربط الجهود الحالية والدائمة باحتمالات الأحداث المقبلة.
وبسبب هذه الأهمية، ينبغي أن نفرق أولا بين التنبؤ العملي الذي يحسن آلية تعاملنا مع الواقع والمستقبل، وبين ما يمكن أن يندرج تحت إطار الخرافات والأحلام غير الملهمة والتوقعات العاطفية. فالأول يتطلب الاهتمام والتطوير والثاني يستحق التجاهل، بعض الناس ينظرون إلى الثاني كوسيلة ترفيهية وهذا حقهم. وقد نستثني ما يحفز من الأحلام الكبيرة من الجزء الثاني ونوليه اهتماما لأنه مؤطر ومحفز لتفكيرنا وممارستنا، ولا يوجد من الناحية العملية ما يمنع من أن ننظر إلى السماء ونطمح بقدرها أملا وإيمانا. لذا، لا تعارض هنا، لكن التفريق مطلوب، لأن الإمكانات المطلوبة للتنبؤ العملي وللأحلام المحفزة مختلفة، ولا يوجد في الحقيقية أي إمكانات مطلوبة لسرد الخرافات أو الحدس الذي لا يستند إلى أي شيء.
قد نجد كثيرا من النصائح والأدوات التي تحسن من قدراتنا على التنبؤ العملي، ولعل النظر في هذه النصائح حسب السياق الذي يهمنا من أهم الخطوات، فالتنبؤ الاقتصادي يختلف عن توقعات مبيعات سلعة محددة في سوق محددة، ومعرفة احتمالية حصول الشخص على وظيفة تتطلب إمكانات مختلفة عن معرفة نسبة الوفيات المحتملة في مجموعة من الدواجن أو الأغنام، وتوقع سلوك الأفراد تجاه سياسة معينة أمر مختلف تماما عما سبق. لكن، السؤال الأهم الذي نطرحه هنا، هل يمكن تحسين قدراتنا حول التنبؤ العملي؟ والجواب نعم، وبشكل كبير ومؤثر. الأمر في نظري قائم على عنصرين: حجم المعرفة المرتبطة بهذا السياق، ومهارات التنبؤ.
يشير كتاب Superforecasters إلى مشروع بحثي نفذ في الولايات المتحدة انطوى على مسابقة تتنافس فيها عدة فرق حول التنبؤ العلمي، تفوق في هذه المسابقة أحد الفرق وكان يسمى "مشروع الحكم الجيد"، ووفق المشروع البحثي تفوق هذه الفريق لأنه استند إلى عدة مهارات سمحت له بتجاوز منافسيه بفارق كبير. أول هذه المهارات الفهم الجيد لموضوع التنبؤ وأسئلته، وتفكيك الأسئلة بشكل يوضح المعلوم وغير المعلوم، وهذا سمح بإغلاق باب الافتراضات التي لا تستند إلى مسبب واضح. الأمر الثاني يقوم على النظرة الأشمل والابتعاد عن الحصر المبكر وتحيزات الارتساء anchoring bias. هناك بالطبع مهارات متعددة تتحدث عنها الكتب والمراجع لتحسين جودة التنبؤات العملية. ولأن هناك كثيرا من الأدوات المتنوعة التي لا تخلو مما هو علمي ودقيق وقابل للتأكيد والتحقق، وبين ما يقوم على تفادي التحيزات والحكم الشخصي، فإن الأقرب هو أن التنبؤ علم وفن، وينبغى على الممارس له أن يتقن مهاراته في كلا الجانبين ليوفق بين واقعه ومستقبله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي