هل ستتغير طبيعة الاستثمار؟
هناك من يتحدث عن أن الاستثمار في المرحلة المقبلة سيكون مختلفا تماما عنه في العقود الماضية، وذلك بالنظر إلى الحقبة من 2009 إلى 2021 على أنها حالة استثنائية يجب ألا يعتد بها، لكونها حقبة تميزت بانخفاض معدلات الفائدة بشكل غير مسبوق، وأن هذا الانخفاض الذي قاربت فيه الفائدة الرسمية 0 في المائة، قد أخل بالأسواق والاقتصاد عموما.
بالنظر إلى معدل التمويل الفيدرالي الفعلي، وهو معدل الفائدة الذي يتم الاقتراض به فعليا بين البنوك الأمريكية، الذي لا يكون بالضرورة مطابقا للمعدل المستهدف من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، نجد أنه كان بحدود 2.5 في المائة في الخمسينيات الميلادية، ثم أخذ في الارتفاع إلى 12 في المائة في منتصف السبعينيات، ثم بلغ قمته التاريخية نحو 19 في المائة في 1981. بعد ذلك استمر هذا المعدل الفعلي بالانخفاض إلى نحو الصفر بعد الأزمة المالية 2008، واستمر منخفضا إلى 2015، حين أخذ بالارتفاع قليلا ليعود إلى نحو 2.5 في المائة لفترة قصيرة ثم يعود بعد ذلك إلى نحو الصفر.
علينا أن نتذكر أن أصول مجلس الاحتياطي الفيدرالي كانت أقل من تريليون دولار قبل 2008، ثم أخذت بالارتفاع إلى أكثر من 2.2 تريليون دولار خلال أشهر قليلة، ثم وصلت إلى نحو 4.5 تريليون دولار في 2014، ثم إلى أكثر من سبعة تريليونات دولار بعد أزمة كورونا إلى نحو تسعة تريليونات دولار في أيار (مايو) 2022.
سياسة إبقاء الفائدة نحو الصفر أحدثت نوعا من التراخي في الأوساط المالية ليس فقط بسبب أن الفائدة منخفضة، بل بسبب ظهور ظاهرة الاعتماد على تدخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذ الاقتصاد والتدخل في سير الدورة الاقتصادية، والأسوأ من ذلك أن هذا التدخل أصبح متوقعا في الأوساط المالية، بحيث أصبح هناك نوع من الاتكالية المفرطة، وهي الظاهرة التي تسمى moral hazard أو المخاطرة الأخلاقية.
لا شك أن سياسة الفيدرالي الأمريكي طيلة الأعوام الماضية، خصوصا بعد 2008، كانت تغذي ظاهرة المخاطرة الأخلاقية، بدءا بشراء الفيدرالي السندات التي تصدرها وزارة الخزانة المالية، وبالتالي اعتماد الحكومة الأمريكية على مقدرة الفيدرالي على شراء هذه السندات، وهذه مخاطرة أخلاقية بحد ذاتها. ثم هناك كذلك المخاطرة الأخلاقية التي يمارسها تجار السندات الحكومية حين يقومون بشراء السندات التي تقوم الحكومة بإصدارها، وذلك لعلمهم المسبق أن الفيدرالي سيشتريها منهم بسعر أعلى، فأصبحت تجارة السندات الحكومية مربحة بشكل كبير وهذا ما تم بالفعل لأعوام طويلة. لذا عندما قرر الفيدرالي هذا العام التخفيف من شراء الأصول، انخفضت أسعار السندات وارتفعت عوائدها كما هو متوقع، ولا ننسى كذلك أن المستثمرين في الأسواق المالية دوما يراهنون على تدخل الفيدرالي لإنقاذ الأسواق، ما أدى إلى تزايد ظاهرة المخاطرة الأخلاقية.
لذا فالتساؤل باق حول ما إذا كانت الفترة المقبلة من الاستثمار ستكون مختلفة بسبب انتهاء حقبة الفائدة الصفرية، التي لطالما أخفت عيوبا اقتصادية هيكلية كثيرة، وكذلك بسبب حاجة الفيدرالي إلى التوقف عن لعب دور المنقذ والبدء بتخفيف ظاهرة الاعتماد على السياسة النقدية في حل الأزمات، هناك فريق من المستثمرين ممن يعتقد أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه، وأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيضطر إلى التدخل لإنعاش الأسواق بعد أن تخف وطأة التضخم الحالية، وبالتالي سيقوم بعكس الاتجاه بتخفيض معدلات الفائدة، ربما بدءا من منتصف 2023، وبالتالي ستكون النتائج إيجابية للأسواق.
بالمقابل هناك فريق من المتحفظين، أو ربما يمكن تسميتهم المتشائمين، ممن يرون أن العقد المقبل ربما سيطلق عليه لاحقا مسمى العقد المفقود للاقتصاد الأمريكي، فهم يرون أن أعواما طويلة من السياسة النقدية المتراخية لا يمكن عكس نتائجها خلال عام أو عامين. هؤلاء المتشائمون يذكرون المستثمرين بأن معدل الفائدة الحالي، حتى إن تجاوز 5 في المائة العام المقبل، فهو يعد أقل بكثير من الفائدة السارية لعدة أعوام كانت فيها أكثر من 10 في المائة، وكانت تكاليف التمويل العقاري تفوق ذلك لأعوام طويلة.
كذلك يشير فريق المتشائمين إلى أن حجم أصول مجلس الاحتياطي الفيدرالي الحالية لا تزال مرتفعة بشكل غير مسبوق، وأن أي محاولات لتخفيفها ستتطلب سحب كميات كبيرة من السيولة وستستغرق فترة طويلة. وهم يشيرون إلى أن ذلك على فرض توقف الحكومة الأمريكية عن الاقتراض، وهذا أمر مشكوك فيه عطفا على العجز المتتالي للميزانية السنوية، التي لم تشهد فائضا منذ 2001، مع ارتفاع في حجم الديون تجاوز 31 تريليون دولار هذا العام.