رحيل جيانغ زيمين يثير الجدل مجددا حول عهده

جاء رحيل الرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين في السادس من كانون الأول (ديسمبر) الجاري عن 96 عاما، ليسدل الستار على مسيرة طويلة لهذه الشخصية التي قادت الصين في مرحلة التغييرات العميقة من 1989 حتى بداية الألفية، وليثير في الوقت نفسه الجدل والنقاش مجددا حول عهده وسياساته.

ومن المفارقات أن غيابه حدث في وقت تسود فيه المظاهرات أنحاء الصين ضد القيود المشددة المرتبطة بمكافحة وباء كورونا، وهي الحالة نفسها التي سادت الصين وقت صعوده إلى السلطة في 1989 ممثلة في تظاهرات واحتجاجات ساحة "تيان إن مين" التي قمعتها دبابات الجيش الأحمر بوحشية.
تمثلت ردود الفعل الرسمية حيال خبر وفاته في المظاهر المعتادة في مثل هذه المناسبات، مثل الحداد والتأبين وتنكيس الإعلام وتعليق الأنشطة الترفيهية وإلقاء خطب الإشادة وبيانات الإعلام الحكومي التي وصفته بـالقائد الثوري والشيوعي العظيم، لكنها جرت كلها وسط إجراءات أمنية صارمة وتعليمات مشددة بعدم التجمع، خوفا من أن تستغل المناسبة في اندلاع موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية.

فمثلا في يانغتشو، مسقط رأس جيانغ، تجمع نحو 100 شخص أمام مقر إقامته السابق، فتدخلت الشرطة لتفريقهم.
لم يكترث المراقبون كثيرا بردود الفعل الرسمية باستثناء بروز فضول لدى بعضهم لمعرفة إن كان خليفته "الرئيس السابق هو جينتاو" الذي أخرج عنوة من مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، سيظهر في مراسم التأبين.

وحينما تأكدوا من ظهوره العلني لأول مرة منذ تلك الحادثة، وجهوا بوصلتهم إلى ردود الفعل الشعبية حول رحيل جيانغ.
الحقيقة أن مواقف الصينيين حياله كانت دوما متباينة، بسبب انقسامهم حول شخصه وسياساته وعهده، لكن الانقسام والجدل حوله قد يكون اليوم أقل حدة من السابق.

فحينئذ سيكتشف أن عهد جيانغ كان أكثر ليبرالية وتسامحا مع المعارضة نسبيا، على الرغم من اتسامه بصور من قمع المعارضين السياسيين والأقليات الدينية واستشراء الفساد. وهذا ما كشفته متابعة بسيطة لتغريدات الصينيين على مواقع التواصل الاجتماعي.
ما يحسب لجيانغ، مهندس الكهرباء المتخرج من المعاهد السوفياتية، أنه حينما صعد إلى السلطة في حزيران (يونيو) 1989 خلفا لزميله تشاو زيانغ، الذي أقصي بسبب مواقفه المهادنة من متظاهري "تيان إن مين"، كانت التضخم متصاعدا ويهدد الاقتصاد في الداخل، وكان القمع المستخدم ضد المطالبين بالحرية والتغيير قد حول الصين إلى دولة منبوذة في الخارج.

لكنه نجح في غضون فترة وجيزة في إحداث الانتعاش الاقتصادي المطلوب، وتدشين عقدين من النمو بمعدلات مرتفعة، وإدخال بلاده في عضوية أكبر محفل تجاري عالمي وإعادتها إلى المسرح العالمي كقوة عظمى.
ومما يحسب له أيضا أنه كان من ذوي الأفكار المرنة، بدليل أنه تحول من صاحب فكر اقتصادي مغلق ومحافظ إلى مؤيد لسياسات الزعيم الإصلاحي دينغ هيسياو بينغ، الداعية إلى تحرير الاقتصاد وانتهاج اقتصاد السوق، وذلك بعد أن انتقده الأخير في جولاته وخطبه في أقاليم الصين الجنوبية مطلع التسعينيات.

ومنذ تلك اللحظة وضع يده في يد دينغ هسياو بينغ ورئيس الوزراء آنذاك زو رونغجي، وقام الثلاثة بما لم يتمكن أسلافهم من القيام به أو لم يكونوا راغبين فيه، وهو إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة من تلك العاملة في قطاعات واسعة عبر خصخصتها أو إغلاقها.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت ضرورية من أجل إعداد وتهيئة الشركات الصينية للمنافسة المباشرة في السوق والتكامل مع الاقتصاد العالمي، إلا أن تسببها في تسريح العمال وفقدان نحو 40 مليون صيني وظائفهم، فضلا عن تسبب سياسات التحرير الاقتصادي في إحداث تفاوتات اجتماعية واقتصادية سمحت بدورها في انتشار الفساد والجريمة، جعل كثيرين يحنقون عليه ويتخذون منه موقفا مناوئا.
ومن هنا قال البعض في موضع تعليقه على خبر وفاته، إن جيانغ زعيم صيني عظيم، لكن اسمه يثير ذكريات مريرة مرتبطة بمساهمته في قمع احتجاجات "تيان إن مين" من جهة، وتسببه في معاناة الملايين معيشيا من جهة أخرى.

وقال البعض الآخر، إن جيانغ بقدر ما عالج مشكلات كثيرة، فإنه ترك مشكلات أكثر لخليفته الذي اضطر إلى تبني سياسة تنموية أكثر توازنا ووجه موارد أكثر إلى المناطق الفقيرة.
إلى ما سبق يدين الصينيون بفضل كبير لجيانغ وطاقمه الاقتصادي، نجاحه السريع في معالجة آثار الأزمة المالية الآسيوية العاصفة في 1997، وهو ما ساعد الصين على اكتساب عضوية منظمة التجارة العالمية في 2001، ومهد الطريق لها لاحقا لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لـ2008.
ومن مآثر جيانغ الأخرى المختلف عليها أنه الزعيم الذي استعادت الصين في عهده مستعمرة هونج كونج من بريطانيا، ومستعمرة ماكاو من البرتغال.

فمع إتمام هذين الحدثين التاريخيين ترسخت في أذهان سكان البر الصيني صورة جيانغ كقائد مقتدر لم يساوم في مسألة توحيد البلاد، لكن ما ترسخ في أذهان هونغكونيين كثر هو صورة جيانغ كأول من أرسى عملية قضم مكتسباتهم وخصوصيات جزيرتهم، فتبعه خلفاؤه وزادوا عليه.
أخيرا، فإن التاريخ سيذكر لجيانغ أنه صاحب أول انتقال منظم للسلطة السياسية في الصين الشيوعية منذ تأسيسها في 1949، وإن كان قد احتفظ ببعض التأثير من بعيد لعدة أعوام بعد تنحيه عن منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي