Author

متخصص في اللغات .. مراجع داخلي

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

لم أجد أهم من الحديث عن سؤال وصلني مع نهاية الأسبوع حول أحقية خريجي كليات اللغات في الحصول على دبلوم المراجعة الداخلية، وهل أنصح بذلك أم لا؟ وقبل أن أجيب عن هذا السؤال، أود أن أقول إن مهنة المراجعة الداخلية تعرضت لتشويه كبير، مع محاولة الماليين السيطرة عليها، خاصة خريجي أقسام المحاسبة ومن دار حولهم، وسبق لي أن أوضحت وجهة نظري في مقال سابق، لكن الأمر يستحق مقالات وليس مقالا واحدا. المشكلة أن تدريس هذا العلم في الجامعة لا يزال يقبع تحت سيطرة أقسام المحاسبة، بينما هو علم منفصل تماما عن تخصص المحاسبة، ومع الأسف فإن هذا جعل الكل يعتقد بأن تخصص المراجعة يعد حصرا على المحاسبين فقط، لقد أكدت الدراسات أن المتخصص في المراجعة الداخلية لا يحتاج إلى مهارات المحاسبة إلا في حدود أقل من 30 في المائة، بل أقل إذا قلنا إن المهارات المالية كلها 30 في المائة، لكن سيطرة المحاسبين ومكاتب المحاسبة على هذا التخصص جعلهم يمارسون فعلا احتكاريا ومن خلاله يتم منع الآخرين من الوصول إلى هذه المهنة أو دخولها. ومع ذلك، فإن الأفضل لمن يمارس المراجعة الداخلية أن يكون متخصصا في مجال عمل المؤسسة التي يراجعها، مجال عملها الجوهري، فإذا كانت المؤسسة تعمل في مجال الصحة، فإن المتخصصين الصحيين هم أفضل من يمارس عمل المراجعة الداخلية، بل إني أذهب إلى أبعد من هذا وأرى أن الأفضل هو عدم الاستقطاب في المراجعة الداخلية من خارج المؤسسة. وأن يتم اختيار المراجع الداخلي من أكثر الموظفين خبرة في مجال عملها.
المراجعة الداخلية لا تتعامل مع القضايا المالية فقط، بل تتعامل مع المخاطر التي تهدد تحقيق أهداف المؤسسة، وهنا بالتحديد يظهر الفرق بوضوح، فإذا كانت المؤسسة من النوع الذي يعمل فيه خريجو كليات اللغات والترجمة، فإن أهداف هذه المؤسسة لا علاقة لها مباشرة بالمحاسبة المالية، ولذلك فإن أي محاسب مهما كانت خبراته سيكون غير مؤهل لتعريف وتحديد ماهية المخاطر التي قد تهدد أهداف هذه المؤسسة، في المقابل فإن الممارسين العاملين فيها هم الأقدر ولو كانوا من خريجي كليات اللغات وهو تخصص أبعد ما يكون عن المحاسبة، فالمسألة تتعلق بالمخاطر. المراجعة الداخلية تعمل على تتبع مدى الالتزام بإجراءات الرقابة الداخلية وتتحقق من البيانات، ومن تأكيدات الإدارات بشأن هذه البيانات، ولهذا فإنه كلما كان المراجع الداخلي متخصصا في مجال المؤسسة كان أفضل، المحاسبة المالية محايدة بين التخصصات "قد تجد المحاسب في كل مؤسسة"، لكن المحاسب يعمل وفق معايير تصدرها جهات مستقلة عنه وعن المؤسسة التي يعمل فيها، لذلك فإن هذه المعايير "كأحد أهم عيوبها" لا تمنح الجهات مرونة مناسبة، وقد يمضي المحاسب عمرا قبل أن يفهم بعضا من تعقيدات العمل الفني للجهة التي يعمل فيها، وهذا بخلاف المراجعة الداخلية التي تذهب بعيدا في فهم وتقييم العمل الفني للجهة وفق مرونة عالية جدا وفقا لتصميم الأعمال في الجهة وتشعبها.
ورغم هذا الفرق الجوهري، فإن المراجعة الداخلية لدينا تعاني اليوم محاولة الهيمنة عليها من متخصصي المحاسبة المالية والمراجعة الخارجية ومحاولة سلب استقلال هذه المهنة، كما أن هناك محاولات كثيرة من المتخصصين في مجال تأكيد الجودة في السيطرة على هذه المهنة أيضا، هذا يتضمن الترويج بأنه لا يحق لغير المتخصصين في المحاسبة دخول هذه المهنة، والأمر على خلاف ذلك تماما، ولعلي هنا أقدم مثالا عن تجربة بشأن التأثير السلبي لهذه الهيمنة، وكيف تصبح المهنة التي تحمي من المخاطر هي نفسها مصدر الخطر. ففي إحدى المؤسسات الأكاديمية تمت دعوتي لمناقشة بشأن المخاطر، وآليات قياسها ومراقبتها، وفي كل مرة كنت أسأل سؤالا بشأن من يحدد المخاطر ومن يعرفها بشكل دقيق، على أساس أن الخطر هو حدث محتمل يؤثر في قدرة المنشأة على تحقيق الأهداف واستخدام الموارد، وفي كل مرة يؤكد الشخص المسؤول عن ذلك بأنه هو من سيقوم بكل هذا، وبشكل منفرد وأن الباقين غير متخصصين في المراجعة الداخلية والمخاطر، ولذلك لا يمكنهم المشاركة، هكذا يصبح الشخص المسؤول عن المراجعة هو الأكثر خطورة على المؤسسة، وهو يريد بنفسه الانفراد بالقرار وتحديد ماهية المخاطر وقياسها وأيضا تحديد الإجراءات الكفيلة بمراقبتها، لقد دمر الاستقلال الذهني تماما، وهو رأس مال المراجعة الداخلية. ولقد تحدثت في مقال سابق عن مشكلة التعصب والتنمر الذي تشهده بيئة المراجعة الداخلية الذي أثبتته الدراسات، والسبب الرئيس في وجود هذا التعصب يعود إلى عدم وجود لغة مشتركة بين المراجعين الداخليين وبين الإدارات المختلفة، فالمراجعون الداخليون في الغالب يأتون من خارج المؤسسة من مؤسسات استشارية، خاصة تلك التي تعمل في مجال مراجعة الحسابات، ومن النادر جدا أن تستثمر الجهة في الموظفين الممارسين للنشاط الأساس بحيث يتم تأهيلهم كمراجعين داخليين، أو في إدارة المخاطر، بينما هذه هي الممارسة الصحيحة في كل الأحوال.
وكإجابة عن السؤال الذي تم طرحه بشأن المتخصص في اللغات والترجمة، هل يمكنه الحصول على دبلوم في المراجعة الداخلية؟، فإن الإجابة هي نعم، بل إنني أشجع ذلك وبقوة، ونأمل أن نرى خريجي الإعلام وهم يحصلون على هذه الشهادة ليصبحوا مراجعين داخليين في المؤسسات الصحافية والإعلامية، وأن تتم ممارسة المراجعة الداخلية في المدارس وإدارات التعليم والمستشفيات والعيادات الطبية على يد متخصصين في هذه المجالات وليسوا محاسبين.

إنشرها