Author

أزمة العقار الصينية وأجراس الإنذار

|

تنشط شركات العقار الصينية في بيع وحداتها السكنية قبل التنفيذ، ويبدأ المشترون في دفع أول القروض العقارية قبل إنشاء المشاريع العقارية بعدة أشهر وربما أعوام ويستمرون في الدفع أثناء وبعد تنفيذها. تعتمد الشركات على السيولة التي توفرها دفعات القروض في إنجاز مشاريعها. قام بعض الشركات بممارسات مالية تسببت في تأخير إنجاز بعض المشاريع. وازداد خلال العامين الأخيرين توقف المشاريع العقارية وتأخر تسليم الوحدات السكنية، ما نشر القلق بين دافعي القروض العقارية. وتشكل المساكن معظم ثروات الطبقة الوسطى، ولهذا فإن التأخر في تسلمها يعوق مسيرة حياة كثير منهم ويؤخر تكون الأسر. قاد إيقاف عدد من كبرى شركات العقار الصينية، مثل شركة إيفرجراند الصينية لمشاريع العقارات، إلى انتشار مقاطعة دفع القروض العقارية في أكثر من 90 مدينة صينية، وبمبالغ تصل إلى مئات المليارات من الدولارات. نشبت معارك قانونية بين المقترضين ومطوري العقارات والمصارف بسبب التأخر في تنفيذ المشاريع العقارية. ونتيجة لذلك تراجعت السيولة لدى هذه الشركات وتخلف عدد منها عن سداد الالتزامات المالية، ما أثار قلق الأوساط المالية. ويشير بعض التقديرات إلى أن إجمالي قيمة المشاريع الموقفة يتجاوز 700 مليار دولار.
أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في سرعة نشر مقاطعة القروض العقارية خلال الفترة الأخيرة. وأدى انتشار مقاطعة دفع القروض العقارية، إلى تراجع حاد في مبيعات الوحدات السكنية خلال الأشهر العشرة الأخيرة، ما تسبب في تراجع أسعار العقار، وبات يهدد نمو الاقتصاد الصيني والاستقرار الاجتماعي. وخفضت الأزمة الثقة بالقطاع العقاري، وتسعى السلطات الصينية لاتخاذ الإجراءات الضرورية لإعادة الثقة للقطاع. وتدرس السلطات إمكانية منح فترات سماح للمقترضين، وتحث الحكومات المحلية والمصارف على تبني إجراءات إنقاذ المطورين من المصاعب المالية، كما أنها خفضت قليلا معدلات الفائدة على القروض العقارية الممنوحة للمشترين أول مرة.
يفترض كثيرون أن أسعار العقار ستستمر في النمو الآمن ورفع قيم ثرواتهم، لهذا تخصص الأغلبية نسبة كبيرة من دخولها لاقتناء المساكن. لا يوجد عجز في عدد المنازل في الصين ومع ذلك يركز كثير من الصينيين استثماراتهم في العقارات، لإعفائها من الضرائب والنمو الطويل في أسعارها. في بعض الفترات غير المتوقعة يفاجأ المشترون بتراجع أسعار العقارات ويتورط كثير منهم في ضوائق مالية. وشهدت أسعار العقار في الصين تراجعا خلال الأشهر العشرة الأخيرة، ما رفع نسبة الممتنعين عن دفع القروض العقارية، كما يرجح مساهمة ضعف نمو دخول الأفراد في الامتناع عن دفع أقساط القروض العقارية. وأسهم أيضا تراجع معدلات النمو الاقتصادي بعد أزمة كورونا وسياسة الصرامة في التصدي للجائحة في تعمق معضلة القروض العقارية. ويشير بعض التقارير إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات قياسية، ما أسهم أيضا في التخلف عن سداد القروض العقارية وإنشاء الأسر.
استمرار التخلف عن دفع أقساط القروض العقارية سيضغط على أسعار العقار. وتراجع أسعار العقار سينتج عنه تأثير سلبي على الثروة، الذي يدفع عادة إلى الإحجام عن الإنفاق ويخفض بدوره معدلات النمو. أما إذا اتسعت رقعة التخلف عن السداد فسترتفع مستويات انكشاف القطاع المصرفي ويتعرض للمخاطر. من جانب آخر، يرفع النشاط العقاري الطلب على خدمات ومنتجات كثيرة، ويخفض تراجعه الطلب عليها، ويؤثر سلبا في النمو والتوظيف والأسعار.
يوجد على الدوام مشاريع عقارية موقفة في الصين - شأنها شأن باقي العالم - لكن عمقها وكثرتها هذه المرة هو ما يثير القلق. وينظر العالم بعين الاهتمام لتطورات الاقتصاد الصيني، حيث ارتفعت أهمية الصين للاقتصاد العالمي في الأعوام الأخيرة. ويقود أي تغيرات في الاقتصاد الصيني إلى تأثيرات قوية على الاقتصاد العالمي، بسبب تحول الصين إلى القاعدة الصناعية الأهم في العالم، وكونها أكبر مصدر وثاني مستورد للبضائع والسلع في العالم. وتحتضن الصين صناعات عديدة ومهمة وبنسب مرتفعة عالميا، ومن أبرز تلك الصناعات: الإلكترونيات، والسيارات، والمعدات والآلات والأجهزة الكهربائية والأثاث والصناعات المعدنية. في المقابل، تستورد الصين جزءا كبيرا من الصادرات العالمية، فهي أكبر مستورد للنفط والمواد الخام بشكل عام. أسهم نمو الطلب الصيني بقوة في رفع أسعار النفط وعدد آخر من المواد الأولية خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة. ويؤثر نمو الصين وتطوراتها الاقتصادية بشكل مباشر في أسعار السلع والخامات، ما يرفع أهميتها للدول المصدرة للمواد الخام، إضافة إلى ذلك تنفذ الصين مشاريع بنية أساسية في عدد كبير من بلدان العالم تقدر قيمتها بنحو تريليون دولار، وتراجع الاقتصاد الصيني قد يوقف عددا كبيرا من هذه المشاريع في البلدان النامية.
تتكرر أزمات العقار في دول متعددة بغض النظر عن تطورها وحجمها الاقتصادي. فمنذ ثلاثة عقود عانت اليابان أزمة عقار قوية استمرت تبعاتها أعواما طويلة، كما مرت الولايات المتحدة في 2008 بأزمة عقارية سببت أزمة مالية كادت تعصف باقتصادات العالم. فهل تلحق الصين بهاتين الدولتين وتعاني أزمة عقارية تتحول فيما بعد إلى أزمة مالية عارمة بسبب رسملة القروض العقارية والهندسة المالية الناتجة عنها؟ إن ما حدث في اليابان والولايات المتحدة وما يحدث في الصين حاليا أجراس إنذار لدول العالم لتوخي الحذر من المخاطر المالية المرتبطة بالقروض العقارية.

إنشرها